قوة القانون وقوة الدولة في مصر

العارفون بالجهاز الإداري للدولة العميقة يعرفون أن الكثير من الجرائم ترتكب باسمه وثمة أوجه للفساد يصعب التصدي لها وتتم بصورة شبه شرعية كما أن بعض القوانين صيغت بطريقة حمّالة أوجه.
السبت 2023/07/01
درس ميناء الإسكندرية ينطوي على رسائل عديدة

توقف الكثيرون عند تصريح للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أخيرا أشار فيه إلى أنه أمر باعتقال شخص إلى حين تنازله عن ملكية مبنى لصالح أحد الموانئ بمدينة الإسكندرية، وهو دليل قد يوحي بقوة الدولة لكنه لا يحمل تقديرا لقوة القانون، لأن محامي الرجل أكد أنه حصل على التراخيص اللازمة لإقامة المبنى بالطرق الشرعية.

قد تكون الواقعة طواها النسيان مع تزاحم الأحداث في مصر، لكن دلالاتها سوف تظل باقية، لأنها أكبر من تنازل شخص عن ملكية مبنى للصالح العام، فإذا كان على الحكومة مواجهة مشكلة إخلاء المبنى من ساكنيه، فهي أيضا تقلل من الثقة في الإجراءات القانونية المتبعة، ولو تم الحصول عليها بالتحايل والأساليب الملتوية، فالمسؤول عن ذلك من صرّح لصاحب العقار بالبناء وتركيب جميع المرافق.

لدى رئيس الدولة صلاحيات كبيرة تمكنه من اتخاذ ما يراه ضد الرجل وكل المسؤولين الذين منحوا العقار شكلا قانونيا، ولذلك فالتركيز على الشق الأول يشير إلى قوة الرئيس، وتجاهل الشق الثاني يمثل عوارا في تطبيق القانون، وهي إشكالية تواجه الكثير من الدول التي تعتمد على قوتها المفرطة وليس قوة القانون الذي يمنحها أهمية مضاعفة.

علم الرئيس السيسي بموقف المبنى القريب من الميناء وتصرف مباشرة وأنهى بكلمة واحدة حاجة الدولة إلى المبنى، غير أن هناك مباني متعددة لا تحظى بشرعية قانونية ولا يعلم عنها الرئيس شيئا ولا تزال قائمة، ومن الطبيعي في ظل انشغالاته ألا يكون ملما بكل كبيرة وصغيرة في البلاد، لكنه إذا ترك القانون يأخذ مجراه لحلت المشكلة.

رئيس الدولة هو رمز لقوة القانون وقوة الدولة معا، والتهاون فيهما أو في أحدهما له تبعات خطيرة

وفرت الخبرة في التعامل مع البيروقراطية المصرية الفرصة للتحايل للكثير من المستنفعين وبعض رجال الأعمال، والحصول على التصاريح الرسمية اللازمة، ومن هنا تأتي المفارقة، فقد تكون الأوراق سليمة من الناحية القانونية، غير أنها ضد مصلحة الدولة التي تملك من أدوات القوة ما يمكنها من الدفاع عنها، فأيهما تصبح له الغلبة؟

يصعب في الحالة المصرية الحديث عن انتصار جانب على آخر تلقائيا، فالانتصار للقانون كأمر طبيعي في أي دولة، لكن العارفين بالجهاز الإداري للدولة العميقة يعرفون أن الكثير من الجرائم ترتكب باسمه، وثمة أوجه للفساد يصعب التصدي لها وتتم بصورة شبه شرعية، كما أن بعض القوانين صيغت بطريقة حمّالة أوجه.

يستطيع أي محام شاطر، ملم بخفايا القوانين في مصر ودهاليزها المتشعبة، أن يستفيد مما تحويه من ثغرات تسمح بتفسيرات وتأويلات تمكنه من الحصول على حق ملك آخرين بقليل من البحث، فهناك قوانين معمول بها مضت عليها عقود طويلة ولم تشهد تعديلا أو تحديثا يتناسب مع ما جرى من تطورات على صلة بها، ومن هذه الزاوية ينشأ الجدل الفلسفي المتكرر حول تطبيق الحق أم العدل.

من المهم أن تكون الدولة قوية وتملك أدوات تشعر المواطنين بهذه القوة في الحدود الإيجابية التي تبعدها عن فكرة البطش أو الظلم، وقد وصلت مصر إلى مرحلة متقدمة من القوة المادية بعد أن استعاد الجهاز الأمني لياقته التقليدية، وزاد عليها توظيف الكثير من الإمكانيات التكنولوجية، وهي مسألة بقدر ما تريح النظام الحاكم يمكن أن تزعجه إذا انحرفت هذه القوة عن مسارها وأخذت طريقا غير متسق مع القانون.

تُحترم الدول من درجة احترامها لقوانينها وحض الناس على التمسك بها من خلال المساواة في عملية تطبيقها، وفي حالة غيابها سوف تغيب معها أشياء قيمة كثيرة يصعب تعويضها، من بينها ضعف الدولة التي لن تسعفها القوة وحدها للحفاظ على مكانتها لدى شريحة كبيرة من المواطنين ورمزيتها في العقل الجمعي العام.

من يشاهد فوضى المرور في بعض الشوارع والميادين في القاهرة وضرب فئة من المصريين عرض الحائط بإرشاداتها على الفور يشعر بوجود عشوائية وعدم احترام للقانون الحاكم لها، وتبدو هذه إشارة كافية لتترك انطباعات سلبية عن سلوك الشعب والجهات المسؤولة عن تنظيم المرور، خاصة أن العديد من المخالفات التي توجه إلى قائدي السيارات يمكن تفاديها بطرق قانونية مختلفة لاحقا.

تشعر الشعوب بالراحة في كنف القانون والعدالة في تطبيقه، وتنتعش قوة الدولة في ظله، وربما يكون الرئيس السيسي أراد في حالة ميناء الإسكندرية إنهاء سريعا لأزمة لأسباب تتعلق بالمشروع ولدواعي المصلحة العامة، وهو ما يصعب القياس عليه.

الحكومة باتت مدانة أمام الناس، فالرئيس السيسي عندما أطلق تصريحه بمصادرة مبنى الإسكندرية.. اعترف بأن محافظها ووزير النقل غير قادرين على مجابهة صاحب المبنى

رئيس الدولة هو رمز لقوة القانون وقوة الدولة معا، والتهاون فيهما أو في أحدهما له تبعات خطيرة، كما أن الانتصار لأحدهما على حساب الآخر له تبعات أشد خطورة، الأمر الذي رفضه السيسي في مواقف كثيرة من قبل، إلا أن التوفيق قد خانه في حالة ميناء الإسكندرية، حيث ترك انطباعات قاتمة بشأن قدرة الدولة على نزع ملكية أي شيء من أي شخص وقتما تشاء، وهو ما يصطحب معه تأثيرات سلبية.

تأتي المشكلة الحقيقية من تزامنها مع مشروعات تنموية كثيرة انتزعت فيها ملكية مبان وأراض في مناطق عدة بهدف المنفعة العامة ولم يتم تعويض أصحابها بالصورة المرضية ماليا، ما أوجد احتقانا كبيرا لدى فئات متضررة شعرت بأن القانونين الوضعي والإنساني في غير صالحها.

وتأتي المشكلة الثانية من تداعيات الموقف المتفاوتة على ملكية البعض للعقارات بأنواعها، فلا أحد معصوم أمام قوة الدولة ولو كان القانون منحازا إليه أو يقف في صفه، ما يمكن أن يؤدي إلى ركود في قطاع حيوي (البناء) يمنحه الرئيس السيسي اهتماما خاصا، ويمثل انتعاشه بالتبعية انتعاشا لقطاعات أخرى تقوم عليه، فامتلاك العقارات في مصر مجال تنشط فيه الدولة بكثافة، وإذا تمادت في الهدم أو الاستحواذ بلا سند قانوني بحجة المصلحة العامة سوف يواجه القطاع ركودا الفترة المقبلة.

ينطوي درس ميناء الإسكندرية على رسائل عديدة، أبرزها ضرورة تنقية الإدارات المحلية مما لحقها من فساد واسع، تسبب في تقنين مخالفات وإضفاء مشروعية عليها، وأحيانا التضحية بمواطنين راحوا ضحية الغش والتلاعب في أساسيات البناء.

وباتت الحكومة مدانة أمام الناس، فالرئيس السيسي عندما أطلق تصريحه بمصادرة مبنى الإسكندرية وانتزاع ملكيته من صاحبه اعترف بأن محافظها ووزير النقل غير قادرين على مجابهة صاحب المبنى بسبب حجته القانونية وضعف المسؤولين.

إذا كان الرئيس المصري عزز قوة الدولة بما أصدره من قرارات للحصول على تنازل صاحب العقار للمنفعة العامة، فقد فتح الباب أمام بعض المسؤولين لمصادرة ما يريدون مصادرته بالحق أو الباطل، ما يعني التقليل من جدوى القانون الذي يمثل الجانب المضيء في الدولة ويعزز قوتها المادية والمعنوية.

8