قوات الشرق المسيحية بين باستيل الحرية ودماء كربلائها

ستراسبورغ - “اقتحام الباستيل شيء، ومعركة كربلاء شيء آخر تماماً”، هكذا بدأ برنارد لويس محاضرته حول فكرة الاستشراق، وأتقن فيها القول نوعا ما. مسيحيو المشرق اليوم يواجهون الزوال. المشهد، ليس إلا قزما خشبيا يحمل بندقية. قزم يحاول اقتحام باستيل الشرق. يقاتل في حرب غيره. بندقية مأجورة؟ بندقية متورطة؟ حلم تائه بين خندقين؟ وربما كل هذه الاحتمالات جميعا.
ووسط جدل كبير حول من يحق له تحرير الموصل؟ ومن لا يحق له؟ ما بين الحشد الشعبي الشيعي، والقوات المحلية تعلن قوات سهل نينوى، عن استعدادها للمشاركة في تحرير سهل نينوى من قبضة تنظيم داعش، مؤكدة أن مهامها الرئيسية حماية المناطق المسيحية. وقال مسؤول قوات سهل نينوى صفاء إلياس ججو إن “قوات سهل نينوى مستعدة للمشاركة في عملية تحرير سهل نينوى”، مضيفاً أن “القوات مجهزة ومدربة لخوض معركة تحرير منطقة سهل نينوى من قبضة داعش”.
إكليل الشوك
قرابة مليون وسبعمئة ألف مسيحي في لبنان ومثلهم في سوريا، وأقل من مليون في العراق. كان للجماعة الأولى تجربتها العسكرية ونالت ما نالت من خراب الحرب الأهلية. أما مسيحيو سوريا اليوم فيعيشون التجربة بخجل حتى اللحظة. مسيحيو العراق شكلوا قوات سهل نينوى وبقوة تعدادها قرابة ألفي مقاتل لا أكثر، تنشرهم وزارة البيشمركة في إقليم كردستان العراق على خطوط المواجهة ضد تنظيم داعش.
في سوريا شُكل المجلس السرياني العسكري وهو اليوم جزء من قوات سوريا الديمقراطية التي تخوض معارك ضد الجميع، بداية من الجيش الحر ومرورا بكل الفصائل العسكرية المعارضة، وصولاً إلى تنظيم جبهة النصرة وداعش. لكن هذا لم يلق قبولاً من رجال دين وسياسيين ومفكرين مسيحيين سوريين كثر، سواء كانوا معارضين أو مؤيدين لنظام الأسد.
في العراق أيضاً اعترضت جهات سياسية ودينية مسيحية على تشكيل “قوة بابليون” التي تتحالف مع الحشد الشعبي، وتنوي المشاركة في تحرير الموصل. وقال دنخا بطرس مسؤول حزب بيت نهرين في محافظة دهوك معلقاً على ذلك “يرى حزبنا أن أيّ قوة عسكرية تشكل خارج الإطار الحكومي هي قوات غير نظامية ولا تمثل المكون المسيحي”.
فريد يعقوب مسؤول الحركة الديمقراطية الآشورية في دهوك يشير إلى أن القوة التي تسمى “فرقة بابليون” لم تشكل من أبناء سهل نينوى. موضحا أن لدى الحركة الديمقراطية الآشورية قوات باسم “قوات حماية سهل نينوى” وهي غير تابعة لتشكيلات الحشد الشعبي بل تعمل بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان.
بينما قال شمس الدين كوركيس رئيس المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري إن غالبية هؤلاء الذين انضموا إلى هذه القوة “قد انضموا إليها لأسباب مادية فقط، كما أن هناك من التحق بها من غير المسيحيين”.
فكرة مسيحية سوريا وإن كانت تحمل في ثناياها بعض الصحة واليقين إلا أنها اليوم باتت عبئا إضافيا على السوريين وعلى أولادهم وبالذات المسيحيين منهم. حيث فقد الأرثوذوكس حقهم في كنيستهم، وفي المقلب الآخر صار الكاثوليك رهن الكنيسة البابوية
ولكن إلى أين تسير هذه الحرب؟ ما النتائج التي يمكن لهذه الجماعة أن تحصدها؟ وما مصير هذا التكوين الاجتماعي الذي يتعامل مع نفسه كتعامل الضيف على هذا الشرق القلق؟ أين ستذهب عائلات وادي النصارى في سوريا وهي التي بشكل أو بآخر شاركت أو سكتت عن إبادة بلدة الحصن والقرى المحيطة بها ذات التركيبة السنية؟ هل سينجو الجميع كما قد ينجو بشر يازجي الذي ورّط أبناء المسيحين في وادي النصارى في هذه المعارك وسلحهم ودفع بهم إلى الحرب الخاسرة قبل بدايتها، بدعم ورعاية مباشرة من الرئاسة السورية؟
صليب الدم
لا يمكن للمؤامرة منفردة أن تلبّي ما يطمح له الخصوم. فلا يمكن قتل كل المسيحيين في الشرق إلا إذا دفعوا أنفسهم إلى المحرقة. إذن كيف السبيل؟ سلّحهم وأرسلهم إلى الجبهات. إن هي إلا أيام ويصبحون تحت رحمة بنادق الجميع كما بات الجميع تحت رحمة بنادقهم. يقتلون ويُقتلون.
بالنسبة والتناسب كيف لمئات المقاتلين أن يقضوا على آلاف في الجبهة المقابلة؟ من هنا يصير واقع المسيحين أكثر قسوة وشدة لا تطاق. فهم اليوم وأهلهم على بوابات جهنم. جهنم التي ستأكل الأخضر واليابس. يموت السني والشيعي والكردي والعلوي والدرزي وبطبيعة الحال المسيحي. لن يقتل الموت كل السنة ولا كل الشيعة ولا كل الأكراد ولكنه قد يقتل معظم، إن لم يكن كل، المسيحين، يقتل وجودهم في الشرق، يهجّرهم إلى أوروبا التي لم تر فيهم إلا عربا شرقيين.
الراهب اليسوعي الايطالي باولو دالوليو كان يرى أن على المسيحيين في الشرق الوقوف بصف الشعوب. سفينة الشعوب لا تغرق. سفينة الشعوب هي مركب نوح يحمل من كل نوع زوجين اثنين. أما سفينة الأنظمة والعصابات ليست إلا محرقة ترسم صليب دم على ملامح الجميع. عوالم القتل ترسم كل التفاصيل فيها، ويغيب العقل كليا وتنفلت العضلات لترسم ما تراه خيرا لها.
في مدينة القصير حاول الأهالي الحفاظ على التكوين الاجتماعي مشتركا في العمل الثوري بداية الانتفاضة السورية. لم يمض عظيم وقت حتى رحل باولو إلى تلك المدينة ليجري بعض المفاوضات والمصالحات. أخلي سبيل بعض المسيحين المختطفين لدى بعض الجماعات التي وصفت بالمتطرفة. عاد باولو حاملا بقلبه قبل عقله الكثير من الفرح. فرح بالمستقبل القادم وقدرة السوريين على التفاهم وتجاوز العقبات التي تواجههم.
|
الراعي المؤجج في روما
عاش الأب باولو قليلا من السلام والفرح بما أنجز، ولكن الفرحة لم تكتمل، جاء القرار الأعلى من روما ودمشق معاً، بطرد باولو من سوريا. وهو الذي أصرّ إلى آخر نفس في حياته بأن يكون المسيحيون في خندق الشعب لا خندق النظام. صليب الدم هو مصير المسيحيين إذا ما حملوا السلاح مع أيّ طرف، ولذا طالب باولو الجميع، وليس فقط أبناء رعيته، بأن يعتمدوا اللاعنف سبيلا للمقاومة ضد الطغيان.
خروج باولو من سوريا ومن ثم اختطافه على يد عناصر تنظيم داعش في الرقة، وانقطاع كل أخباره. اختطاف اثنين من البطاركة السوريين المقربين من الشعب ومصالح رعيتهم الحقيقية في البقاء بديارهم والبقاء على قيد الحياة، وغياب ملفهم في سراديب النسيان. كل هذه التفاصيل تساعد على فهم الصورة العامة للمسيحيين في سوريا. اكتمال المشهد كان مع ميليشيا الدفاع الوطني وما قامت به في وادي النصارى والحصن.
مشهد المسيحيين العراقيين ليس بأقل تعقيداً من السوريين. والكنيسة تشارك في قداس تأبين الطائفة كاملة بكل ما فيها. فهل يكون مصيرهم مثل الصابئة المندائيين في العراق، الطائفة التي انقرضت من تلك الديار وبات من تبقّى من أهلها لاجئين في الولايات المتحدة الأميركية. أم يكون مصيرهم كمصير المختطفين السريان لدى تنظيم داعش والذين يخرجون بعد أن يعلنوا التوبة والدخول في الاسلام أو دفع الجزية. كيف هو مستقبل هذه الطائفة في هذه المنطقة. وما هي خياراتها؟
من المخلص
تناول وترويج فكرة أن سوريا هي بلاد المسيحية ليست إلا دعاية من النظام السوري لتأكيد بأنه يدافع عن أرض مقدسة لا إسلام فيها أصلا، وأنها، أي سوريا، بلاد مسيحية الأصل. ويثبت بطريقة أو بأخرى عبر منظّريه فكرة مفكّرين مثل أدونيس عن وثنية سوريا والعقائد السورية، التي جاءت بعد تطور الموروث الديني السوري واندماجه أو دفاعه عن وجوده في هذه الأرض.
قرابة المليون وسبعمائة ألف مسيحي في لبنان ومثلهم في سوريا، وأقل من مليون في العراق. كان للجماعة الأولى تجربتها العسكرية ونالت ما نالت من خراب الحرب الأهلية. بينما تعيش الجماعة الثانية التجربة بخجل حتى اللحظة. أما مسيحيو العراق فقد شكلوا قوات "سهل نينوى" وبقوة، تعدادها يصل إلى ألفي مقاتل
لكن فكرة مسيحية سوريا وإن كانت تحمل في ثناياها بعض الصحة واليقين، إلا أنها اليوم باتت عبئاً إضافياً على السوريين وعلى أولادهم وبالذات المسيحيين منهم. حيث فقدت الجماعة المسيحية وكرسي أنطاكيا وسائر المشرق حقهم في كنيستهم التي سُرقت من موسكو. بات المسيحيون وبالذات الأرثوذوكس منهم رهن الكنيسة الروسية. وفي المقلب الآخر الكاثوليك رهن الكنيسة البابوية.
كيف السبيل للخلاص من هذه التبعية والارتهان للغير؟ هل يكون بقبول المحيط، وهل هذا المحيط يقبل هذه الطائفة اليوم؟ وكيف السبيل لإصلاح العطب الذي أصاب واقع هذه الطائفة؟ وبالطبع ليس الحديث للدفاع عنها أو البحث عن مخرج لها كما يبحث بعض عقلاء العلويين عن مخرج لطائفتهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المسيحيين لم يتورطوا بعد كما فعل العلويون بغرقهم بالدماء والحرب التي لن تبقي الكثير منهم يوما ما.
الخلل ربما يكون بأن تتخذ هذه الطائفة منذ اللحظة موقف الحياد المطلق وتخرج من صناديق المعادلات الدولية والأنظمة، ويكون هذا بقرار كنائسها المحلية مدعوما بقرار الكنيسة السيادية عليهم، ولكن كيف للأرثوذكس الخروج من هذه الصناديق وكنيسة موسكو ترشّ الطائرات التي تقتل السوريين بالماء المقدّس؟ اليوم يقع المسيحيون في موقف أجدادهم يوم الغزو الصليبي للشرق الأوسط، وموقف قريب من أجداد أجدادهم يوم فتح المسلمون بلاد الشام والعراق حيث انخرطوا على الفور بأعمال الدولة بل ذهبوا أبعد من ذلك، فبات منصور الدمشقي، جد يوحنا الدمشقي، وزير المالية والإمداد بالعصر الأموي.
لا يمكن إنكار أن الشرق بات مسلما بالطبيعة. ولا يمكن إعادة عجلة الزمن إلى القرن السادس الميلادي، وعلى أبناء الأديان والطوائف الباقية القبول بل والاستثمار في هذا الواقع، واستخدامه لصالحهم كما يستخدمه المسلمون إن استطاعوا. عليهم إدراك أن المصير المشترك مع شعوب المنطقة هو الخلاص الوحيد والسبيل اليتيم للبقاء على قيد الحياة والبقاء في صفحات التاريخ النظيفة على أقل تقدير. وبالفعل فحرب مسيحيي الشرق لا تشبه اقتحام الباستيل بل هي أقرب إلى كربلاء.