قطر.. تناقضات وتحالفات تقتل آمال فك العزلة

الدوحة بقدم مرتعشة في المصالحة وأخرى مهرولة لخدمة أنقرة وطهران.
الثلاثاء 2020/06/09
خطاب قطري مزدوج

مضت ثلاث سنوات على المقاطعة العربية لقطر المتهمة بالتورط في دعم جماعات إسلامية مشبوهة وخاصة بوضع مقدراتها على ذمة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. تدخل الدوحة العام الرابع من العزلة، لكن عوض الدفع إلى انتهاج دبلوماسية تثبت حسن نواياها للعودة إلى حضنها العربي، سار قادة قطر في طريق مسدودة عبر اتخاذ مواقف متناقضة تضع قدما في المصالحة وقدما أخرى في لعبة إقليمية تستهدف تمكين تركيا وإيران من مفاتيح المزيد من اختراق الأمن العربي.

القاهرة – دخلت المقاطعة العربية لقطر عامها الرابع، وعوض التفاعل مع مطالب المقاطعين، أقدمت الدوحة على اتخاذ جملة من المواقف الدبلوماسية المتناقضة التي كشفت عمق ازدواجيتها السياسية.

 منذ قيام السعودية والإمارات والبحرين ومصر بقطع العلاقات مع الدوحة أبدت الأخيرة رغبة مخاتلة في الذهاب إلى المصالحة دون أن تمتلك الجرأة على اتخاذ مواقف تثبت نيتها في تلبية شروطها، بل على العكس، رهنت قرارها بإرادة كل من أنقرة وطهران، وهو ما أكد حجم التذبذب في التعامل مع المحاولات الجادة لإنهاء الأزمة.

طاف أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، بالعديد من الدول الغربية، على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، بحثاً عن تدخل يحفظ له ماء الوجه، وحاول إثبات قدرته على الصمود في مواجهة موقف الرباعي العربي القوي.

شملت زيارات أمير قطر أيضاً دولا آسيوية وأفريقية، جميعها انتهت بلا جدوى حقيقية، ولم يحصل على ما أراد، وأخفق في التحايل على الشروط المعلنة للمقاطعة، وظل يردد هو وآلته الإعلامية أنه مع المصالحة، وأنه لا يزال قويا وقادرا على الصمود، لكن بعد فترة يعود إلى خطاب الاستجداء.

دولة معزولة

طارق فهمي: قطر حسمت مصيرها باللجوء إلى تحالفات خارج النطاق العربي
طارق فهمي: قطر حسمت مصيرها باللجوء إلى تحالفات خارج النطاق العربي

تصدرت غالبية التوجهات القطرية الخارجية قضية واحدة فقط وهي “العودة من العزلة”، وتخلت تدريجياً عن الأدوار التي رسمتها لنفسها في مناطق النزاع، مثل فلسطين وسوريا، وغابت هاتان القضيتان عن خطابات الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الأمم المتحدة، وغيرها من المنصات الإقليمية والدولية، بعدما شكلتا حجر زاوية في خطاباته السابقة، وجرى استبدالهما بشعارات المظلومية التي اتبعها في محاولة لإيجاد رأي عام دولي مساند لقطر.

في الزيارات التي قام بها دبلوماسيون قطريون لدول عدة، كان التأكيد على أن الدوحة أضحت أقوى مما كانت عليه قبل 5 يونيو 2017، وفي الوقت ذاته تستميت بحثاً عن وساطات لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها، وجاء تأكيدها على تمسكها باستقلالية قرارها السياسي معاكساً لموقفها من تركيا وإيران، بعد أن حولت أرضها إلى ساحة لتواجد قواتهما.

وجدت الدوحة نفسها في مأزق حاد بعد أن طرحت دولة الكويت مبادرتها، لأن رغبتها في إنهاء الأزمة مع دول مجلس التعاون الخليجي اصطدمت بـ”فيتو” تركي إيراني رافض للحل، بعد أن ارتمت في أحضان الطرفين المعرقلين لأي حلول إقليمية من شأنها توحيد الصف العربي، ما جعلها تتراجع خطوات إلى الوراء بفعل الضغوط التي تتالت عليها.

يرى مراقبون أن الموقف القطري من الأزمة عبّر عن ازدواجية فاضحة، لأن الدوحة وجدت أنها لا تستطيع ممارسة سياساتها المعتمدة على استغلال علاقاتها الخاصة مع جيرانها، وغير قادرة على التأقلم مع وضعها الجديد كدولة معزولة تتحكم فيها توجهات سلبية.

الدوحة بحاجة إلى المصالحة أكثر من أي وقت مضي، لكن في الوقت نفسه يصعب حدوث ذلك دون تلقي الضوء الأخضر من تركيا وإيران

ذهب البعض إلى التأكيد على أن الدوحة أضحت بحاجة إلى المصالحة أكثر من أي وقت مضي في ظل المشكلات الداخلية المتفاقمة التي تعاني منها الآن، لكن في الوقت ذاته يصعب حدوث ذلك دون أن تتلقى الضوء الأخضر من أنقرة وطهران، والذي لن يسمح لها بالتحرك في اتجاه المصالحة التي تتضمن شروطا تفرغ علاقتها بهما من المحتوى العدائي لدول المنطقة.

بحسب ما نشره موقع “قطريليكس” للتسريبات، أجبرت تركيا قطر على وقف المفاوضات التي انطلقت قبل نهاية العام الماضي مع السعودية، وحذرتها من الاستمرار في التقارب مع الرياض دون ترتيبات مسبقة معها.

سلطت هذه الوثائق الضوء على قوة التأثير التركي في إزاحة رئيس الوزراء القطري السابق الشيخ عبدالله بن ناصر عن منصبه، وهو من مؤيدي المصالحة مع دول الخليج، وكان من الممانعين لتزايد التغلغل التركي في شؤون بلاده.

نورهان الشيخ: دفع قطري لأن تصبح تركيا وإيران أكثر اختراقا للأمن العربي
نورهان الشيخ: دفع قطري لأن تصبح تركيا وإيران أكثر اختراقا للأمن العربي

وقال المحلل السياسي بمركز دراسات الشرق الأوسط، طارق فهمي، إن قطر روجت أنها تسعى للوصول إلى مصالحة تنهي عزلتها العربية، لكن حسمت مصيرها باللجوء إلى تحالفات إقليمية مشبوهة خارج النطاق العربي للاحتماء بها، ما عطّل جهود المصالحة الكويتية التي رحبت بها جميع دول بلدان مجلس التعاون وأفشلتها تناقضات قطر.

وأضاف فهمي في تصريحات لـ”العرب”، أنه بعد ثلاث سنوات أصبحت المقاطعة أمام متغير رئيسي من المتوقع أن يطيل أمدها، لأن مطالب الدول الأربع أضحت أمام تحديات جديدة بسبب زيادة هيمنة تركيا وإيران على مفاصل القرار القطري.

قطعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، بعدما كشفت أدلة قوية تورط الدوحة في دعم جماعات إسلامية متطرفة لزعزعة استقرار المنطقة، وترافق قطع العلاقات مع إجراءات اقتصادية، بينها إغلاق الحدود البرية والطرق البحرية، ومنع استخدام المجال الجوي.

وأوضح فهمي أن الدبلوماسية القطرية تعاني كثيرا من تباين مواقف القائمين عليها، لأن هناك تيارين؛ أحدهما يدعو إلى التهدئة والاستجابة للمطالب الخليجية والانحياز إلى الوساطة السياسية، والآخر يرغب في التمادي في الانخراط مع الدول الأربع، وهذا الفريق يملك اليد العليا في مفاصل القرار القطري، بعد أن رفض حضور الشيخ تميم بن حمد القمة الخليجية الأخيرة.

تذبذب المواقف

يبدو أن الدوحة تسعى إلى إيجاد حل ينهي عزلتها الحالية، ويحقق مصالح القوى المهيمنة عليها، ما يجعلها في مظهر القوي غير المنصاع للمطالب العربية العادلة، ولعل ذلك ما كان دافعا لوزير خارجيتها، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني لتأكيده حاجة الشرق الأوسط إلى اتفاقية أمنية – إقليمية، توفر الاستقرار الأساسي للمنطقة لمواجهة الأزمات المختلفة، في محاولة للالتفاف على الاستجابة المباشرة للشروط العربية.

لم يوضح المسؤول القطري شكل الاتفاقية التي طرحها خلال مشاركته في ندوة عبر الإنترنت، عن السياسة  الخارجية والدبلوماسية العالمية في منطقة الخليج وخارجها، استضافها معهد السياسات الخارجية بجامعة “جونز هوبكنز” مؤخرا، ولم يحدد أيضاً الدول المعنية بها ليظل المشروع مطاطا ومراوغا، وكاشفا عن حالة الازدواجية التي تعاني منها بلاده، غير أنه شدد على أنها ينبغي أن تكون “بدلاً من تطبيق الإقصاء أو التضييق”، في إشارة مبطنة إلى التحايل على التجاوب مع شروط المقاطعة، التي أضرت كثيرا بقطر.

فسرت أستاذة العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، نورهان الشيخ، تلك المبادرة بتأكيدها على أنها تأتي ضمن سياقات التردد التي تهيمن على موقف قطر من المصالحة، لأن قياداتها تتعامل مع المطالب العربية من منظور شخصي، وتفتقر إلى القدرة على اتخاذ قرارات تحمي الأمن القومي العربي.

قطر انخرطت منذ المقاطعة في توقيع العديد من الاتفاقيات العسكرية والأمنية مع كل من تركيا وإيران
قطر انخرطت منذ المقاطعة في توقيع العديد من الاتفاقيات العسكرية والأمنية مع كل من تركيا وإيران

ولفتت الشيخ في تصريحات لـ”العرب”، إلى أن الحديث عن اتفاقيات أمنية إقليمية يأتي في سياق رغبة قطر في أن تصبح تركيا وإيران أكثر اختراقاً للأمن العربي لتحقيق رغبات توسعية لكل من البلدين، وتسعى للتغلب على الصعوبات التي تواجهها جراء خسارتها محيطها العربي عبر اتفاقيات تعمل على نسجها لجني مكاسب، وضمان عدم خسارتها الحماية التركية – الإيرانية.

عملت قطر منذ أن تراجعت فرص المصالحة الكويتية على الانخراط في المزيد من العلاقات وتوقيع العديد من الاتفاقيات العسكرية والأمنية مع كل من تركيا وإيران. وعكست زيارة الشيخ تميم لطهران، بعد أيام قليلة من مقتل قائد فيلق القدس الذراع الخارجي لميليشيا الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، هذا التوجه.

طالبت القيادة القطرية الرئيس الإيراني حسن روحاني بتوسيع العلاقات بين البلدين في كافة المجالات، وفي المقابل فتحت قطر حدودها البحرية لحرس الحدود الإيراني ليتحرك بشكل متحرر من القيود، بعد توقيع مذكرة تفاهم حدودية بينهما في أغسطس الماضي.

لا تخفي طهران توجهها إلى المزيد من التعاون بين قادة حرس الحدود في البلدين لمتابعة البروتوكولات، ويمثل ذلك الضوء الأخضر للسماح لإيران بالتوسع في المنطقة.

في مطلع ديسمبر الماضي ، ناقش قائد القوة البحرية في الجيش الإيراني، مع نظيره القطري تجديد التفاهمات العسكرية بين البلدين، في دلالة صارخة على عمق التعاون الأمني بين الدوحة وطهران، رغم التهديدات التي تمثلها الأخيرة لبعض دول الجوار.

اختراق الغرب

جهاد عودة: قطر تبحث عن نفوذ يعوضها خسائرها الداخلية
جهاد عودة: قطر تبحث عن نفوذ يعوضها خسائرها الداخلية

قال أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، جهاد عودة، إن الدوحة وظفت جزءا من الصندوق السيادي القطري لتغيير وجهات نظر الرأي العام الدولي تجاهها من خلال تجنيد المواقف المؤيدة لها للحد من خسائرها، ما انعكس على ميلها نحو بعض مراكز الأبحاث والمنظمات الدولية والإنسانية للتحكم في ما تصدره من دراسات.

حسب ما نشرة موقع “واشنطن فري بيكون”، فإن قطر تنفق الكثير من الأموال للتسلل خفية إلى منظومة التعليم الأميركي، كجزء من جهود التأثير والدعاية لصالح الدوحة، وأن مؤسسة قطر QF، وهي كيان تابع للحكومة القطرية ومكلف بالعمل على دعم وتعزيز مصالح الدوحة، أنفقت 1.5 مليار دولار على الأقل منذ عام 2012 لتمويل مجموعة من المبادرات

 التعليمية في 28 جامعة عبر أميركا، ما يجعلها من أكثر الممولين الأجانب انتشارا في المنظومة التعليمية الأميركية.

وتمول قطر مؤسسات فكرية بارزة مثل معهد بروكينغز، فيما تطاردها اتهامات مؤخراً تزعم أن الدوحة قامت بتمويل هجمات قرصنة على حوالي 1500 شخص، بينهم نشطاء سياسيون متمركزون في واشنطن، وقدم أعضاء جمهوريون في الكونغرس التماسا لوزارة العدل في يونيو من العام الماضي للتحقيق في ممارسات شبكة الجزيرة بشأن انتهاكات لقانون FARA.

وأضاف عودة، لـ”العرب”، أن قطر تبحث عن النفوذ الذي يعوضها خسائرها الداخلية، غير أن تأثيرها يظل محدوداً، والأموال التي صرفتها لم تنجح في خلق رأي عام مؤيد لموقفها، تحديداً مع المطالبات الأميركية بالتوقف عن دعمها الإرهاب، وسوف تستمر في مأزقها الحالي طالما لم تختر العودة إلى محيطها العربي الذي يعتبر مجال نفوذها السياسي الأول.

حسين هريدي: الدوحة اختارت البقاء كغطاء سياسي ومادي لتنظيم الإخوان
حسين هريدي: الدوحة اختارت البقاء كغطاء سياسي ومادي لتنظيم الإخوان

طال نشاطها المشبوه تمويل الجماعات المتطرفة التي تحتمي بالمساجد في الكثير من الدول الغربية تحت عباءة العمل الخيري، وهو ما حدث في هولندا التي شهدت على مدار الأشهر الماضية استجوابات عديدة في برلمانها للتحقيق في “التأثير الأجنبي غير المرغوب فيه على المساجد”، حسب تقرير لموقع nos الهولندي.

وبرأي مساعد وزير الخارجية الأسبق، حسين هريدي، فإن الديوان الأميري القطري اختار أن يظل غطاءً سياسياً ومادياً ومعنوياً لتنظيم الإخوان وكافة أطياف الإسلام السياسي، واستخدمهم بما يحقق مصالح الدوحة، ويجعلها قادرة على تحقيق أهداف سياستها الخارجية، وأنها أبعد ما يكون عن الالتزام بمواثيق جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي التي تحظر التدخل في شؤون الغير، وتحاول السيطرة على دوائر التأثير الغربي بما يمنحها قوة تستند إليها في مؤامراتها ضد جيرانها من خلال قلب الحقائق وخلق الأسانيد الباطلة لدعم موقفها.

وأشار في تصريحات لـ”العرب”، إلى أن خطورة زيارات الشيخ تميم الخارجية التي تضاعفت في أعقاب المقاطعة العربية تكمن في أنها تستهدف التشويش على المحاولات العربية الساعية إلى وقف دعم الدوحة للإرهاب، كما أن التحالفات الوقتية التي أقدم عليها خلال الفترة الماضية هدفها ضرب بلدان المقاطعة وتعميق الأزمة الحالية وليس حلها، وهو ما يعزز الازدواجية التي تؤكد أن قطر غير جادة في حل الأزمة، ووجدت فيها مشروعا سياسيا جديدا تتاجر به داخليا، وتبتعد عن تلبية طموحات المواطنين.

7