قطب روسي يتشكل ودور فرنسي ينهار في الساحل الأفريقي

باريس - أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهاية حضور بلاده في جمهورية النيجر بسحب السفير والقوات العسكرية، فيما بدأت ملامح القطب الروسي تتشكل في منطقة الساحل الأفريقي أمام أعين العواصم الغربية ومنها باريس التي تشعر بهول الصدمة جراء الانهيارات المتلاحقة لجسور تواصلها مع مستعمراتها السابقة في القارة السمراء.
وفي 17 سبتمبر الماضي أعلن رئيس مالي الانتقالي عاصمي غويتا أنه وقع مع نظيريه البوركينابي إبراهيم تراوري والنيجري عبدالرحمن تشياني ميثاق تأسيس "تحالف دول الساحل" لإنشاء بنية دفاعية جماعية. ويلزم الميثاق الدول الثلاث بعدم مهاجمة بعضها البعض، كما تترك المادة 11 الباب مفتوحا أمام انضمام “أي دولة أخرى لها نفس الحقائق الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية” للدول المؤسسة.
وأكد غويتا أن الهدف من الميثاق، بشكل عام، هو “إنشاء بنية للدفاع الجماعي والمساعدة المتبادلة لصالح سكاننا”، فيما اعتبر نظيره البوركينابي تراوري أن "إنشاء تحالف دول الساحل يمثل خطوة حاسمة في التعاون بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر..، ومن أجل سيادة شعوبنا وتنميتها سنقود الحرب ضد الإرهاب في فضائنا المشترك حتى النصر". وهي المعاني نفسها الواردة في تصريحات القائد العسكري النيجري. وأثار التحالف الجديد مخاوف الدول الغربية التي أبدت انزعاجها من توسيع الشراكة بين دول الساحل الأفريقي وروسيا.
◙ فشل جهود التنمية وانتشار التطرف والإرهاب واتساع دوائر الفساد المالي والإداري عناوين للرغبة في القطيعة مع الإرث الاستعماري والاتجاه نحو فضاءات أخرى للتعاون
وفي مائدة مستديرة استضافها معهد نيو لاينز للدراسات الإستراتيجية والسياسية، وهو مركز أبحاث في واشنطن، أعرب المحللون، بمن فيهم كبار دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي، عن قلقهم البالغ إزاء عزم أفريقيا على الشراكة مع روسيا، على الرغم من الثروة المادية المحدودة أو البنية التحتية التي تقدمها موسكو للقارة. وقال المشاركون في الجلسة إن أفريقيا أصبحت مركزا للجغرافيا السياسية العالمية.
ويعتبر المتابعون لمجريات الأحداث في منطقة الساحل والصحراء أن قطبا روسيّا بدأ يتشكل في المنطقة من خلال الوجود المؤثر لمسلحي فاغنر في دول كمالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وليبيا والسودان، وكذلك من خلال التحالف السياسي مع موسكو بعد خيبة أمل الشعوب في العلاقة مع الغرب، لاسيما مع فرنسا التي يبدو أنها خسرت كل رهاناتها سواء على تحصين السلطات الموالية لها أو على "فرنسة" الشعوب وفرض استعمارها ثقافيا إلى ما لا نهاية له.
وبات واضحا أن فرنسا تواجه تدهورا متسارعا في علاقاتها بمستعمراتها السابقة في أفريقيا والتي تبلغ 14 دولة، بما فيها الدول العربية بشمال أفريقيا (المغرب والجزائر وتونس)، لكن انهيار حضورها في دول الساحل كان أسرع، ومثل تحولا إستراتيجيا مهما تشكل ظاهره من الانقلابات العسكرية وتحوّل في منطلقاته الأساسية إلى انتفاضات شعبية مناهضة للهيمنة الفرنسية.
وبقدر ما تراجع الدور الفرنسي تنامى الدور الروسي في المنطقة وفي عموم القارة لعدة أسباب، من بينها الإرث الذي تركه الاتحاد السوفياتي في دعم حركات التحرر الأفريقية وزعمائها البارزين، وعدم تورط الروس في الاستغلال المباشر لثروات الأفارقة، ودفاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن القيم العائلية واحترام الخصوصيات الثقافية للشعوب مقابل ما يعتبره البعض ترويجا غربيا للفسق والمجون واعتداء على القيم الدينية والأخلاقية.
وكشف استطلاع أجرته مؤسسة غالوب عام 2021 أن 84 في المئة من الماليين مثلا ينظرون بإيجابية إلى روسيا. ووفقا لدراسة أجرتها مؤسسة فريدريش إيبرت ستيفتونغ الألمانية في مايو، فإن تسعة من كل عشرة ماليين يثقون بروسيا لمساعدة البلاد في معركتها ضد انعدام الأمن. وقال ممثل المؤسسة في مالي إن "الحكومة كثيرا ما ترى أن روسيا هي الدولة الوحيدة القادرة على استعادة الأمن وأن هذه مساعدة غير أنانية".
◙ القطب الروسي بدأ يتشكل بالوجود المؤثر لمسلحي فاغنر في دول كمالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وليبيا والسودان بعد خيبة أمل تلك الشعوب في العلاقة مع الغرب
ويرى أبوبكر حيدرة، باحث العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية في بوردو الفرنسية، أن "هناك شيئا واحدا مؤكدا وهو أن الانجذاب نحو روسيا حقيقي، إذ أن الاتحاد السوفياتي هو الذي شكّل الجيش المالي الجديد بعد الاستقلال وأنشأ مدرسة لموظفي الخدمة المدنية. واليوم يتحدث الكثير من العملاء والجنود اللغة الروسية، من بينهم وزير الدفاع العقيد ساديو كامارا الذي تدرب في روسيا وسعى إلى تعزيز التعاون بين البلدين".
ويعتبر التحالف الثلاثي المكوّن من مالي وبوركينا فاسو والنيجر صيغة متقدمة لفك روابط التبعية لباريس، وإعلانا عن ترهل الدور الفرنسي في القارة السمراء، ودخول منطقة الساحل والصحراء مرحلة الوعي الإستراتيجي بالتحولات الدولية التي شرعت في التأسيس لتوازنات جديدة من منطلق التعددية القطبية، وهو ما يمكن تفسيره بتطوير العلاقات الأمنية مع روسيا والاقتصادية مع الصين وقطع جسور التواصل مع فرنسا في سياق ما بات البعض يصفه بمعركة التحرر الوطني الجديدة، وعدم المساس بالعلاقات التقليدية مع الولايات المتحدة التي لا تزال تتحكم مثلا في 1000 عسكري وقاعدة إطلاق لطائرات دون طيار في النيجر.
ولمواجهة أي محاولة للتدخل بالقوة في الدول الثلاث أكدت مالي وبركينا فاسو والنيجر على وحدة مصيرها، وبحسب المادة 5 من الميثاق المبرم بينها فإن الأطراف المتعاقدة ستعمل على منع وإدارة وحل أي تمرد مسلح أو أي تهديد آخر يؤثر على سلامة أراضي وسيادة كل دولة من الدول الأعضاء في التحالف، مع إعطاء الأولوية للوسائل السلمية والدبلوماسية، واستخدام القوة إذا لزم الأمر للتعامل مع حالات زعزعة السلام والاستقرار.
ويشير مراقبون إلى أن فشل جهود التنمية وانتشار التطرف والإرهاب واتساع دوائر الفساد المالي والإداري واستمرار المستعمر القديم في نهب الثروات وبسط نفوذه على الخيارات الثقافية والسياسية وظهور أجيال جديدة تدعو إلى ضرورة التفكير في مصالح دولها وشعوبها…، كل ذلك أدى إلى حراك غير مسبوق من حيث الرغبة في القطيعة مع الإرث الاستعماري والاتجاه نحو فضاءات أخرى للتعاون والتكامل على كل الأصعدة.