قبائل معاصرة
الرعب من الاستقلال والفردية يولد نزوع التجمع، للخلاص من الوحدة وما يقترن بها من ضعف ووحشة، ففي الجماعة غلبة ودفء، لهذا أكثر ما يخشاه المرء أن ينبذ من جماعته، ويفرد “إفراد البعير المعبّد”، على حدّ تعبير الشاعر الجاهلي، الملوّع من القبائل.
فبين أن يكون لسان حالها، أو مصدر عارها، بقي وجود الشاعر مرتهنا بالقبيلة. ولقد عرف المعجم الثقافي مفردات عديدة للدلالة على نزعة المبدع إلى الارتباط بجماعة تصون مطامحه، من مثل مفاهيم “الشلة” و”الحلقة” و”الجماعة”، التي تنضاف إلى مفردات أخرى دالة على التجمع بشكل مؤسساتي كـ: “الاتحاد” و”الرابطة” و”العصبة” وغيرها، وهي كلها صيغ لترابط المصالح، تسعى إلى التأثير، عبر وسائل مختلفة، في مؤسسات الإعلام والنشر، والمؤسسات المالية المتصلة بالثقافة، لأجل ضمان جملة من الخيرات الرمزية للعضو في تلك الجماعة.
كل هذه الصفات قد تبدو مقبولة وضرورية في عالم يستند في اشتغاله على مؤسسات الضغط بشتى تجلياتها، لكن ما قد يبدو غريبا هو السعي إلى اكتساب سمة حداثية (اللوبيينغ) عبر آليات عتيقة (القبيلة)، وتحويل تلك الآلية إلى قاعدة تتحكم ليس فقط في أسلوب العمل والضغط وتوزيع المنافع، بل تصوغ بنية العلاقات بين الكتاب أنفسهم، فتصير علاقاتهم ببعض البعض مبنية على علاقة كل منهم بشيخ القبيلة، الذي بدل أن يكتفي بوظيفة “التمثيل”، و”النيابة”، يجتبي لنفسه صفات “الأب” و”الكبير” الذي يمنح ويحرم، يكافئ ويعاقب، يقرّب و”يفرد إفراد البعير المعبّد”.
ولنفترض أن الشاعر، والروائي، والمسرحي، والقاص، وكاتب الرسائل الديوانية المسجوعة، على قلب رجل واحد، وفي ملة ترى أن الإبداع شأن خطير يحتاج إلى “كبير”، واعتقاد يغطي فيه نبوغ هذا ضعف ذاك، وقض القلة قضيض الكثرة.
لنفترض كل ذلك جدلا، ولنحمل قدرا كبيرا من حسن النية، ونحن نقبل بقيام “اتحاد” على قاعدة “زعيم”؛ هل ينتهي بنا الأمر إلى القبول بتحوّل مبدأ “الضغط” لضمان سبل الانتشار والشهرة، إلى تدافع على غنيمة زاد ومنشط؟ هل من السوي أن يتحد أناس ضمن شبكة قرابة تعود إلى القرون الوسطى، فقط ليقبلوا فردا أو أفرادا في زمرتهم وليقولوا إنه منهم؟ أفترض أن أيّ كاتب عبقري، إلا ومتعه الله بقدر محترم من العواطف الشيطانية التي تجعل كل كاتب ناشئ يبدو له كشوكة في الحلق.
طبعا -عزيزي القارئ- هي مجرد أسئلة بريئة وفي حدّها الساذج، الذي قد يكون هو الأساس العقلي لأيّ عملية تصفية أو اختيار أو تراتب مصلحي، وهي أيضا أسئلة تقودنا في النهاية إلى قناعة مبدئية وهي أننا فعلا بحاجة دوما إلى جماعة، وإلى غلبة تباعد بيننا وبين “إفراد البعير المعبّد”. بيد أن ما لا نحتاجه بتاتا هو معين تلك “الحالة” والنسق الثقافي الذي ينتجها ويرعاها، أي القبيلة التي لها “كبير” يحتاج دوما إلى بعير.
كاتب من المغرب