في معاني الديمقراطية والازدهار في البرلمان العراقي وأرقام البنك الدولي

كم نحن محظوظون أننا ولدنا في جغرافية اسمها العراق، حيث أرقام البنك الدولي تشير إلى أن البلد، حسب الأرقام التي أعلنها، سجل نموا اقتصاديا بـ8.9 في المئة عام 2022، وهذا الرقم هو الأعلى في المنطقة حسب تصريحات البنك الدولي، وفي مقدمتها السعودية. وبموازاة ذلك يسجل البرلمان الذي يرأسه محمد الحلبوسي أعظم ظاهرة ديمقراطية في تاريخ الديمقراطيات البرلمانية في العالم، حيث صوت على منع باسم الخشان، وهو نائب عن محافظة المثنى، من الترشح لأية لجنة برلمانية إلى جانب منعه من المداخلات خلال الفصل التشريعي.
ألا يحق لنا بعد هذا أن نفخر بهذا الرفاه والازدهار والتمتع بهذه الديمقراطية التي نحسد عليها على الأقل مقارنة مع دول الجوار!
المؤسسات المالية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وصندوق التنمية الأميركي والبنك الأوروبي وغيرها، ترصد أرقام الفقر والبطالة والناتج المحلي والنمو الاقتصادي في الدول والبلدان من أجل معرفة هل ينسجم أداء اقتصادها مع متطلبات الإنتاج الرأسمالي العالمي واستقرار الأسواق ونموها، وهي تعمل كمجسات لمعرفة المخاطر والتحديات التي تقف أمام دوران عجلة الإنتاج، والسعي في نهاية المطاف لإزالتها واحتوائها، مثل أداء الحكومات ونشوب الاضطرابات والفوضى والهيجانات الجماهيرية والاحتجاجات العمالية انتهاءً بالثورات.
أي بعبارة أخرى، أن عمل تلك المؤسسات بمثابة صمام أمان لحماية الاقتصاد الرأسمالي العالمي وسوقه العالمية. ولعبت تلك المؤسسات، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية دورا كبيرا سواءً في تنصيب حكومات أو إفقار البلدان رغم أنها هي التي جاءت بتلك الحكومات من أجل تمرير مشاريعها الاقتصادية والسياسية. وعقب أي تحول سياسي في أي بلد أو دولة بفعل مؤامرات مؤسسات المخابرات ودعمها للانقلابات العسكرية، أو ما سمي بالثورات الملونة، نجد في اليوم الثاني حضور ممثلي وموظفي المؤسستين على طاولة المفاوضات مع الحكومات الجديدة التي جاءت عبر تلك الانقلابات.
الأمثلة كثيرة على ذلك مثل، تشيلي والأرجنتين والبرازيل وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والفلبين وبولندا وأوكرانيا وبلغاريا.. والعراق الذي تم غزوه واحتلاله من قبل الولايات المتحدة.
إشادة البنك الدولي بحكومة الكاظمي والأداء الاقتصادي يتناسب مع برلمان يقوده الحلبوسي ويوجهه الصدر. والمشكلة لا في الحلبوسي ولا في الصدر، بل في شخصيات مثل الخشان الذي قرر أن يغرق بوهم التغيير
في اليوم التالي كانت المؤسستان حاضرتين خلف طاولة المحادثات مع الطبقة الحاكمة الجديدة التي بصمت بالعشرة وأقسمت أغلظ الأيمان بأن العراق سيمضي على خطى مدرسة شيكاغو الاقتصادية ومؤسسها ميلتون فريدمان، طالما ضمنوا تأهيلهم للسلطة وحمايتهم.
ما نريد أن نقوله إن أرقام البنك الدولي التي تشيد بالاقتصاد العراقي ودور الحكومة التي يتفاخر وزير ماليتها عبدالأمير علاوي بها، تكشف عن حقيقة واحدة تهم النظام الرأسمالي العالمي، وهي أن العراق ماضٍ على الطريق بما يدعم وينسجم مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ولا يشكل خطرا على استقراره.
وطبعا الأرقام التي يعلنها البنك الدولي تخفي في طياتها حجم البطالة والفقر وعدم حصول الفرد على ما يكفيه من سد حاجاته المادية والخدمات الاجتماعية والسكن والصحة والمياه النظيفة الصالحة للشرب. وأيضا تخفي أن نمو الناتج المحلي العراقي، وبغض النظر عن تقسيمه العادل على المواطنين، هو بسبب تصاعد أسعار النفط بعد انتهاء إغلاقات وباء كورونا وزيادة الطلب العالمي بسبب اشتعال الحرب في أوكرانيا. أي أن نمو الناتج المحلي ليس مرده تطور الصناعة والزراعة والسياحة والتجارة باستثناء صناعة النفط وتصديره. ويعني من الجانب الآخر لا تغيير في سوق العمل أو إيجاد وخلق فرص عمل.
ما يهم الاقتصاد الرأسمالي العالمي، كما ذكرنا في مناسبات أخرى، هو صناعة النفط ودورها في الإنتاج الرأسمالي العالمي، وما عدا ذلك فليذهب العراق إلى الجحيم. وهذا يكشف أيضا عدم اكتراث الأقطاب الرأسمالية العالمية بما يدور في العراق من عمليات سلب ونهب، التي تدور رحاها على قدم وساق منذ الغزو والاحتلال.
وبحسب أرقام لوزارة التخطيط أعلنت في سبتمبر الماضي، فإن 31 في المئة من الشعب العراقي يعيشون تحت خط الفقر، ونسبة البطالة بلغت 40 في المئة، مع العلم أن الوزارة لا تملك أية استبيانات. في حين صرح مظهر صالح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء في يوليو من نفس العام أن معدل البطالة انخفض إلى 22 في المئة، بينما انخفض معدل الفقر إلى 25 في المئة. ولم يستند في تصريحاته هو الآخر إلى أية معطيات مادية، ومع هذا فإن هذه الأرقام كانت قبل تنفيذ بنود الورقة البيضاء الملزمة بتنفيذها من قبل الحكومة العراقية، وهي ورقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. طبعا ناهيك أن بنود الورقة البيضاء لم تنفذ حاليا سوى فقرة واحدة منها وهي تخفيض قيمة العملة المحلية، والتي زادت من ارتفاع الأسعار وانخفضت القدرة الشرائية لراتب العامل والموظف بنسبة أكثر من 25 في المئة.
وهذا يعني دفع المزيد من المواطنين إلى خط الفقر أو تحته. وإذا ما نفذت جميع فقرات الورقة البيضاء التي وضعت على أساسها الموازنات السنوية، وهي تنتظر حاليا تمرير البرلمان لها، وتتضمن فرض الضرائب على رواتب ومعاشات العمال والموظفين بنسبة تصل إلى عشرين في المئة، ورفع سعر المحروقات ورفع الضرائب على الاتصالات، فإن مساحة الفقر ستزداد وتجر أقساما اجتماعية أخرى إليها.
وعليه، إن حصة الفرد من الناتج القومي ومن النمو الاقتصادي الذي يشيد به البنك الدولي ويتفاخر به علاوي ويمشي مختالا يبشرنا بالتقشف وشد الأحزمة على البطون في عام 2023، تتحطم أمام أرقام نفس المؤسسات.
لقد بلغ إجمالي تصدير النفط للأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، حسب شركة سومو، 38.59 مليار دولار، ولم تنعكس هذه الأرقام على مستوى معيشة الفرد الذي زادت حصته أكثر من 6 في المئة حسب البنك الدولي.
الأرقام تبين بشكل مخادع مساواة حصة العامل والموظف، الذي انخفضت قدرته الشرائية بسبب تخفيض قيمة العملة المحلية، مع حصة عضو البرلمان الذي يتقاضى على أقل تقدير خمسة ملايين دينار. وتتساوى أيضا مع حصة المالكي والخزعلي والعامري الحلبوسي والصدر من الناتج القومي للفرد.
أرقام البنك الدولي التي تشيد بالاقتصاد، تكشف عن حقيقة واحدة تهم النظام الرأسمالي العالمي، وهي أن العراق ماضٍ على الطريق بما يدعم وينسجم مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ولا يشكل خطرا على استقراره
وتفضح أيضا تمويه وتعمية أرقام البنك الدولي على الحقيقة، وهي سياسة الاقتصاد الرأسمالي الهادفة إلى إخفاء الظلم الاقتصادي والاجتماعي الواقع على الأغلبية المطلقة من العمال والموظفين والعاطلين عن العمل. المهم بالتطبيل لهذه الأرقام هو الإشادة بالأداء الاقتصادي لحكومة مصطفى الكاظمي كي تمضي قدما إلى الأمام في تنفيذ برامج سياسة الليبرالية الجديدة، والتي تعني بمجملها تنصل الدولة من مسؤوليتها تجاه المجتمع في الميدان الصحي والتعليمي والخدمات والكهرباء والتوظيف. وعلى الصعيد السياسي إيجاد منظومة حكم بإمكانها الحفاظ على مكانة العراق في هذه العجلة الرأسمالية.
ما يدور في البرلمان العراقي يتلاءم مع هذا النوع من الاقتصاد، وهذه الأرقام التي يعلنها البنك الدولي، تحفظ مصالح طبقة سياسية فاسدة لها القدرة على قمع أي صوت معارض دون تردد، وفرض الإذعان والخنوع على العمال والموظفين وعموم الجماهير المسحوقة في العراق، وهو قمع عشنا فصوله الدموية خلال انتفاضة أكتوبر.
البرلمان في العراق يعني توزيع الأدوار بقدر توزيع الامتيازات. وهذا يفسر دون أي عناء ودون حاجة إلى تحليل عميق لماذا يرفض الجميع في الكتل السياسية البقاء في المعارضة. ببساطة شديدة، لأن المعارضة لا تجبي الامتيازات، وهي بعيدة عن بؤر السرقة والنهب. وعندما كتبنا في عام 2016 ردا على المنافحين والمدافعين عن البرلمان العراقي، عندما اقتحم المتظاهرون المنطقة الخضراء ووصلوا إلى مقر البرلمان وعبثوا بأثاثه، تعالت الصيحات والتنديد بالمتظاهرين لأنهم هتكوا مقدسات الوطن والدستور وممثلي الشعب، ونعتوهم بالخونة والمرتزقة والغوغاء.. في حين أن البرلمان عندما كان يصوغ القرارات ويسن القوانين لرفع امتيازات أعضائه وتنصيب حكومات اللصوص بنكهات طائفية وقومية، ويمرر أكثر الشخصيات الفاسدة لتبوء المناصب، لم يكن ينتهك المقدسات. كانوا مفعمين بالوطنية إلى درجة تصديرها إلى دول المنطقة، وولهانين بالمعزوفة الموسيقية لنشيد “موطني” ومخلصين ومنقذين للشعب.
ما يحدث اليوم لباسم الخشان هو امتداد لذلك البرلمان الذي لم ولن تحدث أي انتخابات تغيير فيه.
والجدير بالذكر أن حرمان الخشان من الدخول في اللجان البرلمانية ومنعه من المداخلات والحديث جاءا بقرار من الكتلة الصدرية التي فازت بالأغلبية البرلمانية وتطرح تشكيل حكومة أغلبية. فلنتخيل ماذا سيكون حال الحريات والحقوق في عراق يقوده الصدر – الحلبوسي لحكومة أغلبية بنقاء وطني بنسبة 99 في المئة مثل أرقام البنك الدولي.
والسبب في قرار البرلمان هو أن الخشان يوجه بشكل منظم انتقادات لاذعة لمقتدى الصدر، ويكشف عن ازدواجيته وتناقضاته بين تصريحاته ومواقفه العملية. وفي عرف القوى الإسلامية من ينتهك مقدسات “السيد”، إما أن يعجل الله من فرجه ويرسل له ميليشيات السيد لتصفيته جسديا، كما هو في الحالة اللبنانية، ونقصد حسن نصرالله، أو الحالة الحوثية والإيرانية. فـ”السيد” له حق النقد والنقض وحق تشكيل الميليشيات، وحق الأخيرة بتوجيه الميليشيات للسرقة والنهب والقتل. لا صوت يعلو فوق صوت “السيد” وصوت ميليشياته.
وأخيرا، إشادة البنك الدولي بحكومة الكاظمي والأداء الاقتصادي يتناسب مع برلمان يقوده الحلبوسي ويوجهه الصدر. والمشكلة لا في الحلبوسي ولا في الصدر، بل في شخصيات مثل الخشان الذي قرر أن يغرق بوهم التغيير عن طريق العملية السياسية والبرلمان، وساهم بنشر تلك الأوهام بدرجات مختلفة في المجتمع الذي تقدم خطوات وقرر سحب الشرعية التي منحها للعملية السياسية من خلال مقاطعتها بنسبة أكثر من 82 في المئة.