في مصر.. نعم لتوبة الأفراد ولا لمراجعات جماعة الإخوان

بعد حالة الجمود التي أصابت جماعةَ الإخوان المسلمين على المستوى السياسي، عاد بعض قادة التنظيم لتدوير المراجعات الفكرية لفك عزلة الجماعة والعودة إلى المشهد السياسي تدريجيا، إلا أن تاريخ الحركة في قول ما لا تفعل جعل القاهرة تتبع أسلوبا أكثر حذرا مما سبق في قبول المراجعات.
القاهرة - اختلف التعاطي الرسمي في مصر مع نوعين من مراجعات جماعة الإخوان وما طرحه موالون لها من مبادرات مؤخرا، ما ساعد على تشكيل رؤية لمستقبل حضور الجماعة وأفرادها في الفضاء العام.
وعقب ما طرحته جماعة الإخوان على لسان مسؤول مكتبها السياسي حلمي الجزار بشأن إجراء مراجعات فكرية شاملة تتمحور حول اعتزال العمل السياسي والاكتفاء بالتفاوض حول مصير المحبوسين، هاجم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الجماعة دون أن يأتي على ذكرها صراحة في ختام مؤتمر “حكاية وطن” بالعاصمة الإدارية الجديدة في شرق القاهرة قبل أيام، متهمًا قادتها بشرعنة الكذب.
وأعلن الجزار مسؤول المكتب السياسي لجماعة الإخوان والمحسوب على جبهة لندن ويُعد الرجل الأول بالجماعة حاليًا في لقاء له بقناة “الشرق” الإخوانية، أن جماعته قررت عدم الصراع على السلطة، وهذا التوجه جزء أصيل في رؤيتها الجديدة وليس مناورة سياسية.
وتقوم هذه الرؤية على “فتح صفحة جديدة للحوار مع الجميع، وطي صفحة الخلافات، واعتبار تسوية قضية المعتقلين وإنهاء معاناة أسرهم أولوية قصوى للعمل السياسي في هذه المرحلة”.
وأشار الرئيس السيسي في مؤتمر “حكاية وطن” الذي شارك فيه وزراء وسياسيون وإعلاميون وممثلون لفئات مختلفة، إلى أن الجماعة ضللت البسطاء طوال ستين عامًا وقدمت نفسها بشكل مخالف للحقيقة كونها تمثل صفوة المجتمع في الأخلاق والمبادئ، بينما أكدت ممارساتها خلاف ذلك.
وفي المقابل، اختلف التعاطي الرسمي مع مراجعة فردية أجراها إعلامي ومخرج تلفزيوني سابق موال لجماعة الإخوان وهو حسام الغمري الذي عاد إلى القاهرة بلا عوائق أمنية وسط ترحيب ومباركة من إعلاميين مصريين.
وعكس رد فعل الرئاسة المصرية غير المباشر على مبادرة المصالحة التي طرحها الجزار مقابل أسلوب التعاطي الإعلامي المرن مع الغمري الرؤية العامة للتعامل مع الحالة الإخوانية ومؤداها قبول المراجعات الفردية واحتواء مفارقي الجماعة والمتحررين من أسرها، ورفض فكرة عودة الجماعة بشكلها التنظيمي التقليدي وإن أوحت بالقيام بمراجعات وتقديم تنازلات والتخلي عن جزء معتبر من خطابها السابق.
ويُسهم فتح الباب أمام المراجعات الفردية والترحيب بعودة المنشقين في المزيد من إرباك جماعة الإخوان التي تحاول تشكيل حالة في الاتجاه المعاكس، تزاوج بين إجراء مراجعات شكلية باسم التنظيم لا تمس عقائده وأسس منهجه الأيديولوجي، وإبقاء الحد المقبول من تماسكه وحضوره في المشهد تمهيدًا لإعادة ترتيب أوراقه وتنظيم صفوفه.
ويخدم تشجيع المراجعات الفردية الرؤية المصرية القائمة على رفض عودة الجماعة بشكلها التقليدي القديم وكشف مساوئها وتجاوزاتها وعلاقاتها الخفية مع أجهزة المخابرات الأجنبية وإثبات عدم استحقاقها تمثيل الإسلام والحديث باسمه، لما بدر عنها من مواقف تخالف القيم والمبادئ الدينية.
وهاجم الغمري جماعة الإخوان من خلال حلقات على يوتيوب بعنوان “تجربتي في إسطنبول” بوصفها أداة وظيفية في يد أجهزة خارجية، كاشفًا تفاصيل حول ما جرى تسريبه سابقًا بشأن مصادر ثروات قادة الجماعة وتربح بعضهم بشكل غير مشروع من العمل بمجالات مريبة، فضلًا عن تآمر بعضهم على بعض والتخلي عن كثيرين من الأعضاء والموالين من المرضى والمشردين الذين لا يجدون قوت يومهم.
وترجع أهمية هذه المراجعات إلى المكانة التي احتلها الغمري ضمن المنظومة الإعلامية للجماعة، حيث عمل في عدة قنوات وشغل منصب المدير التنفيذي لقناة “الشرق” التي يديرها المعارض أيمن نور وكان ضيفًا دائمًا على غالبية البرامج التي تبث من فضائيات الجماعة بالخارج.
القاهرة تقبل توبة الأفراد وترفض بشكل قاطع الحوار أو المصالحة مع تنظيم مُدرج على قوائم الإرهاب
وتشجع خطوة الغمري وطريقة التعاطي الرسمي معه على المزيد من الانشقاقات من منطلق إجراء مراجعات فردية ترسم طريق عودة جماعة الإخوان وفقًا للتصور المصري، حيث تقبل السلطات توبة الأفراد وترفض بشكل قاطع الحوار أو المصالحة مع تنظيم مُدرج على قوائم الإرهاب.
ولم تعد فكرة إجراء جماعة دينية ارتكبت عنفًا في السابق مراجعات مقبولة داخل الحالة المصرية، فقد تكرر هذا السيناريو في السابق مع جماعات أخرى غير الإخوان ولم تكن نتائجها النهائية مشجعة على استنساخها.
وبسبب الانقسام الذي جرى حول طبيعة المراجعات وحول العديد من الإشكاليات الفكرية والفقهية، نتج عن تجربة الجماعة الإسلامية المصرية ظهور جناح بعد الخروج من السجون يعارض الخط الرئيسي للمراجعات والمتمثل في تغيير القناعات القديمة المتعلقة بالحكام وعدم تكفير الحاكم تحت زعم أنه لا يطبق الشريعة وفقًا لتصورات الجماعة.
وخاض هذا الجناح الذي استغل المراجعات ومبادرة وقف العنف في تسعينات القرن الماضي واستخدمها كوسيلة للخروج من السجون والعودة إلى المشهد في مسار سياسي لإزاحة الحاكم العلماني وإقامة آخر إسلامي.
وناقض هذا التصور الأساس الذي قامت عليه المراجعات باعتبار الحاكم من خارج الإطار التنظيمي مسلمًا، ما يتيح التعاون معه والاندماج في المجتمع والاكتفاء بالأدوار الدعوية والتربوية، وعدم ممارسة السياسة من منطلق تكفير ما هو قائم وطرح نموذج إسلامي بدلًا منه.
هناك قناعة راسخة لدى أجهزة الأمنية في مصر بعدم قابلية الجماعات الدينية للإصلاح وعدم امتلاكها الإرادة والقدرة على تصويب مناهجها وأفكارها بشكل جماعي
وانتهت تجربة الأحزاب الإسلامية التي نافست على السلطة (ومن ضمنها حزب البناء والتنمية ممثل الجماعة الإسلامية) إلى نتائج شبيهة بما انتهت إليه الجماعات القديمة التي مثلتها، وبعد أن فشلت في إدارة الدولة رفضت الإرادة الشعبية في التغيير وحملت السلاح في مواجهة مؤسسات الدولة بهدف فرض الأمر الواقع بالقوة.
ولا يبشر الوضع الداخلي لجماعة الإخوان بنتائج مختلفة عن تجربة الجماعة الإسلامية، فالانقسام داخلها بين أكثر من جبهتين، ولا يرفض مبادرة الجزار فقط قادة جبهة إسطنبول المناوئة، إنما عارضتها أيضًا قيادات بارزة داخل جبهة لندن التي ينتمي إليها الجزار نفسه.
ويوصل الانقسام داخل الإخوان إلى اعتبار ورقة المفاوضات والمراجعات الفكرية من قبل بعض أجنحتها محطة للخروج من الأزمة وإنهاء ملف المحبوسين والهاربين، تمهيدًا للعودة تدريجيًا إلى ممارسة العمل السياسي.
ولا تستفيد الدولة المصرية ومؤسساتها إذا استجابت لهذا التوجه الذي يسهم في فك الحصار المفروض على الجماعة دون الاقتراب من تفكيك مناهجها وأفكارها التي تربت عليها كل التنظيمات المتطرفة.
ورسخت قناعة لدى أجهزة الأمنية في مصر بعدم قابلية الجماعات الدينية للإصلاح وعدم امتلاكها الإرادة والقدرة على تصويب مناهجها وأفكارها بشكل جماعي، وأن الحل يكمن في التعاطي المرن مع المراجعات الفردية المصحوبة بمفارقة العضو للتنظيم وتحرره بشكل كامل من انتماءاته وولاءاته وقناعاته القديمة.
المراجعات محطة لإنهاء ملف المحبوسين تمهيدًا للعودة تدريجيًا إلى ممارسة العمل السياسي
وتضمن الدولة وفقًا لهذا التوجه عدم مخالفة أحكام القضاء وعدم الدخول في مسارات مساومة ومقايضات في غنى عنها، حيث تعاني جماعة الإخوان أصلًا من الضعف والتشتت وفقدان الحلفاء، وتناور اليوم بأساليب أخرى لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه بالعنف عقب خروجها من السلطة.
وناقضت جماعة الإخوان نفسها على لسان مسؤول مكتبها السياسي عندما تعهدت باعتزال العمل السياسي وعدم المنافسة على الحكم والاكتفاء بالدعوة، وفي نفس الوقت دعمت رسميًا المرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي، ما يشي بعدم المصداقية والجدية في خوض مسار مراجعات حقيقية بمعزل عن المناورات والدوافع البراغماتية.
وتواصل جماعة الإخوان بالتزامن مع تسويق وجهها التصالحي والتعهد بإجراء مراجعات استهداف النظام المصري بنفس أسلحتها التقليدية، بداية من تكثيف الدعاية داخل أوروبا لحشد رأي عام ضده، مرورًا بتشويه ما جرى إنجازه من مشروعات، وانتهاءً بتوظيف منظمات دولية لصياغة تقارير حول الوضع الحقوقي بمصر تروج لانتهاكات الحقوق والحريات.
ويبدو الأفراد بعيدين عن استخدام المناورات لنجاح توبتهم، فكل ما يحتاجه الفرد الخروج من صفوف الجماعة ودمجه داخل نسيج المجتمع بلا سعي لتحقيق مكاسب خاصة، ولذلك تتسم مراجعاتهم بالصدق والشفافية والجدية.
ونجحت المراجعات الفردية خلال عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر في إحداث انشقاقات واسعة داخل صفوف الإخوان حتى أوشكت الجماعة على الانهيار والتشظي ولم يعترف النظام حينها بمراجعات جماعية، وتقبل توبة الأفراد عبر خطاب موجه لرئيس الجمهورية يتعهد صاحبه بالتحرر الكامل من أسر التنظيم والعودة إلى أحضان الوطن.