في مدارات السلطان

في مقابل هذه المقبرة نعثر على عشرات اللوحات في قصور السلاطين، بورتريهات ولوحات لمناظر طبيعية وقصور… وأحيانا لا نعرف حتى اسم الفنان الذي رسمها، يمكن أن يكون شخصا صاحب حظوة كبيرة لدى السلطان.
الأربعاء 2019/02/27
فرانسيسكو غويا لم يتطلع إلى تخليد اسمه في أعمال لقصور وحاشية وأمراء

وجود الشاعر والروائي في مشهد توقيع أمر يدعو للشفقة، طاولة وناس متحلقون، ومكتبة أو قاعة ندوات، لا توحي بسلطة ما، بخلاف حفلات افتتاح المعارض الباذخة، والمكتسحة بالأضواء والأطعمة والكؤوس الرفيعة، وروائح العطور، ورطانات بلغات أجنبية. يوحي الأمر وكأن التقاطب نهائي، والمكانة ظاهرة لمن له القدر المعلى في مجتمعات السلطة؛ لكن بإنعام النظر في تفاصيل المشهد يتضح أن الصورة خادعة إلى حد كبير، بالنظر إلى مصائر المتوسلين بالمكتوب من جهة والمرئي من جهة ثانية في مدارات السلطان.

حيث ظلت الكتابة طموحا مؤرقا لكل الحكام، وموهبة يتوق إلى الظهور بها الديمقراطيون والمستبدون، الملوك والرؤساء، الحاكمون والمعارضون. في الآن الذي لم يكن فيه الانشغال بالرسم يشكل رهانا متصلا بممارسة السلطة، لهذا لا يذكر لنا التاريخ فنانين بطموح الحكم أو حكام بتطلع فني، بخلاف مئات النماذج المتواترة لشعراء وروائيين ومسرحيين كانوا في الدائرة الضيقة للسلطة أو حكموا بلدانا وأمما؛ من الوليد بن يزيد إلى لسان الدين بن الخطيب… ومن فاتسلاف هافيل إلى دومينيك دوفيلبان.

غير بعيد عن المسجد الأزرق في إسطنبول، وضمن عشرات المقابر المنجمة في المدينة النائمة على أديم من أجساد الجنود والسلاطين والتجار والحرفيين الناطقين بلغات الشرق المتعددة، توجد مقبرة لا توحي بأهمية ما تحتضنه من لحود، في المدينة الموزعة بين تخوم الشرق والغرب.

لكن لوحة مثبتة عند المدخل تشرح أنها تخص كتابا أتراكا، وبدخولك إليها وتجولك بين مقابرها ستكتشف أن كل الأسماء المخطوطة على شواهد القبور هي لـ”باشوات”، أو بالأحرى “كتّاب باشوات”؛ قادة في الجيش وموظفون سامون وسفراء، ووزراء في حكومات السلاطين. وفي مقابل هذه المقبرة نعثر على عشرات اللوحات في قصور السلاطين، بورتريهات ولوحات لمناظر طبيعية وقصور… وأحيانا لا نعرف حتى اسم الفنان الذي رسمها، يمكن أن يكون شخصا صاحب حظوة كبيرة لدى السلطان ويمكن أن يحوز قدرا كبيرا من الثراء، لكنه يظل برغم ذلك مغمورا.

ذكرتني كل هذه التفاصيل في وظيفة شديدة الأهمية في بلاطات ملوك آل بربون بإسبانيا إلى حدود القرن التاسع عشر، وهي منصب “رسام الملك”، وهي الوظيفة التي شغلها عدد كبير من عباقرة الفن الإسباني لعل أبرزهم فرانسيسكو غويا الذي كان رساما لفرناندو السابع، لكنه لم يكن يوما يتطلع إلى أي دور غير أن يخلد اسمه في أعمال لقصور وحاشية وأمراء، لم يؤرقه يوما حلم كذلك الذي شغل ابن خلدون والمتنبي ومئات غيرهما أي الجلوس على كرسي الأمير ذاته.

15