في غزة.. ليس من حقك أن تعيش

ونحن نرى ما آلت إليه الأحوال الاجتماعية وأوضاع البنية التحتية في قطاع غزة، تتبادر في أنفسنا تساؤلات حول ما يخبئه المستقبل لأهالي غزة بعد هذه الحرب الضروس التي تجاوزت وتيرتها وخسائرها جميع المواجهات العسكرية السابقة مجتمعة، لاسيما عن تكلفة إعادة إعمار مدينة غزة التي دمرت عن بكرة أبيها، وعن مصير الآلاف من العاطلين عن العمل والمسرحين من وظائفهم في دولة الاحتلال.
قد يكون من الصعب تصور واقع مغاير لحياة الغزيين حتى وإن انتهت هذه الحرب بسقوط حماس الراعي الرسمي للمواجهات المحفوفة بالدمار والخراب، بعد أن دخلت غزة مرحلة الانهيار الشامل لجميع مقومات الحياة الإنسانية، وتحول المشهد فيها إلى مشهد شبيه بمشهد برلين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ربما سيحتاج الغزيون إلى سنين طوال وإلى مليارات عديدة حتى ينفضوا ركام الحرب ويستعيدوا بعضا من مظاهر حياتهم الطبيعية. وربما لن يكون هنالك القدر الكافي من الصبر لانتظار ذلك بعد أن استنفدت هذه الحرب نفسهم الطويل وقدرتهم على التحمل.
هذه الحرب لم تكتف بتغيير المعادلة من حرب مقاومة إلى حرب بقاء كما دقت النعش الأخير في مسمار اقتصاد غزة وحملت الغزيين فاتورة إعادة إعمار تفوق 50 مليار دولار، وخلفت تكلفة بشرية لا تقدر بثمن، وأربكت المسالمين الباحثين عن حقهم في العيش، وأعادت جميع العمال إلى ديارهم مثقلين بتحديات الحياة ومعاناة البطالة، وأفقدت المئات ممن يعيشون داخل القطاع مصادر رزقهم، وقللت من أعداد البنايات ورفعت من أعداد الخيم.. ومع ذلك يتحدث المطبلون لحماس عن انتصار أربك إسرائيل ودمر مخططاتها لكن في الحقيقة أن هذا انتصار من يده في الماء وليس انتصار من يده في النار.
◙ مهما حاولت البروباغندا الإعلامية الداعمة لحماس تسويق "طوفان الأقصى" على أنه خيار مكن المقاومة من فرض معادلة جديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي، إلا أنها من المستحيل أن تقنع سكان غزة بأنها تحارب من أجلهم
لا يختلف اثنان في كون سياسات الاحتلال كانت من منغصات الحياة على الغزيين، لكن لا يمكن إغفال أن نهج حماس في إدارة القطاع قد زاد من وطأة الظروف الصعبة لأهاليها بعد أن فشلت في تحريك عجلة الاقتصاد المتوقفة، وصمّت آذانها عن ضرورة مراجعة أولوياتها السياسية لصالح الأولويات الاقتصادية المستعجلة، ولطالما لجأت إلى جيوب من تحملوا تبعات سياساتها الخاطئة لتغطية عجز ميزانيتها، ولجأت إلى الضرائب المثيرة للسخط، وخونت كل الأصوات التي تغرد خارج سربها، وقمعت جميع من ينادي لحراك “بدنا نعيش”، وفي مقابل دعمهم لشعارات حماس لم يجن الغزيون منها سوى الحرب تلو الأخرى، ولم تحقق حماس منذ استيلائها على الحكم أي نصر ملموس يكون كفيلا بتسديد فواتير التضحيات المادية والبشرية التي قدمها الغزيون.
وفقا لمنظمة العمل الدولية، فإن الحرب الأخيرة قد تسببت في خسارة ما لا يقل عن 182 ألف وظيفة بما يعادل 61 في المئة من القوى العاملة لسكان غزة، ما يعني أنه وبمجرد أن تضع الحرب أوزارها سيجد الآلاف من الفلسطينيين أنفسهم في مواجهة حرب مع لقمة العيش، وستضطر قطر إلى مضاعفة منحتها من أجل السيطرة على ثورة الجوع وحق العيش التي تنتظر حماس ما بعد الحرب، هذا إن نجحت في اجتياز الطوفان بسلام وتمكنت من تمديد فترة حكمها إلى ما بعد رحيل بنيامين نتنياهو.
مهما حاولت البروباغندا الإعلامية الداعمة لحماس تسويق “طوفان الأقصى” على أنه خيار مكن المقاومة من فرض معادلة جديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي، ونجح في ردع العدو، ومكن من إيقاظ روح الثورة في نفوس الغزيين، إلا أنها من المستحيل أن تغطي الشمس بالغربال، وأن تقنع سكان غزة بأنها تحارب من أجلهم وفي سبيل تحرير فلسطين وتحقيق حياة كريمة، وهو ما يبرر تدمير غزة فوق رؤوسهم تحت مسمى التضحية في سبيل الوطن.
الحقيقة التي لا ينكرها عاقل هي أن الناس في غزة قد دفعوا ما فيه الكفاية من أجل لا شيء تقريبا.. فقط من أجل أن يحييهم قادة حماس على صمودهم من الدوحة وأنقرة وبيروت ومن تحت الأنفاق، ومن أجل صفقة تبادل راح مقابلها الآلاف من القتلى، وانضم عشرات الآلاف إلى صفوف النازحين في غزة.