في ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر.. صيغة تعايش بين الولايات المتحدة وطالبان والقاعدة

بعد عقدين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ثم غزو الولايات المتحدة لأفغانستان وإنهاء حكم الإمارة الإسلامية التي آوت القاعدة في ذلك الوقت، غادرت القوات الأميركية البلاد لتصعد طالبان والإسلاميون مجددا إلى السلطة، وبعد العودة إلى نقطة البداية تُطرح أسئلة كبيرة بشأن المستقبل ومكامن الخطر ومن سيناله الضرر الأكبر.
القاهرة – تمر أفغانستان باختبارات نوعية وهي تمنح جهاديي العالم دفعة هائلة على خلفية دعايات الانتصار على الولايات المتحدة بعد أن منحتهم سابقا الملاذ الذي مكنهم من القتل والترويع على نطاق عالمي، فكيف يختلف ما بعد سبتمبر 2021 عما بعد سبتمبر 2001، وما الذي يطمح إليه الجهاديون وهل تعلموا الدروس التي تؤهلهم لتعظيم أرباحهم وتقليل خسائرهم، وكيف ستختلف عودتهم عن انطلاقتهم من نفس الساحة؟
لم تكن الحماية التي سبغتها طالبان على تنظيم القاعدة في الماضي تعبيرا عن قناعات مشتركة تتعلق باستهداف المصالح الأميركية والغربية حيث لم تكن للحركة الأفغانية طموحات دولية ولم تسع يوما لتأسيس مشروع خلافة أممي، ما كان يشغلها هو تعزيز هيكل حوكمتها وتثبيت حكمها المحلي بعد معارك ضارية خاضتها ضد أجنحة المجاهدين الذين انخرطوا في الصراع الساخن على السلطة بعد قتال السوفييت وضد أمراء الحرب وقاطعي الطرق وفارضي الضرائب والمبتزين.
الثقة والخداع
لم يكف طالبان لتكريس حضورها وبسط هيمنتها على مقاليد السلطة في الواقع المضطرب الذي يموج بالتوترات الاجتماعية والصراعات الأيديولوجية ما أحرزته من بعض النجاحات على مستوى فرض الأمن وفتح الطرق وإنهاء أعمال العنف والابتزاز واغتصاب النساء من خلال جهود الملا عمر الذي اكتسب شعبيته من منطلق قيادته لطلبة المدارس الدينية في مواجهة أمراء الحرب ورجال العصابات والجريمة المنظمة، وهو ما أفضى لوصول عدد من أعضاء طالبان في غضون بضعة أشهر إلى ثلاثين ألف مسلح ما رفع من أسهم الملا عمر الذي صار زعيما روحيا لطالبان في العام 1994.
وما دفع طالبان خلال فترة حكمها الأولى لأفغانستان بين عامي 1996 و2001 لإيواء القاعدة هو حاجتها للتنظيم الذي أسسه أسامة بن لادن بهدف مساعدتها في عملية سيطرتها على الحكم عبر قدرات القاعدة على تعزيز صفوف طالبان وحلفائها بالداخل الأفغاني عبر تجنيد وإيواء وتدريب الآلاف من الجهاديين المحليين والوافدين من دول إسلامية وغربية.
ما كانت طالبان لتتمكن بجهودها أن تعلن نفسها كإمارة إسلامية بدون إسهامات القاعدة
نظرت طالبان لمصالحها وركزت على استفادتها من القاعدة لمواجهة خصومها بناء على ما بين الحركة والتنظيم من انسجام وتشارك في تصورات التطبيق الصارم للشريعة، علاوة على ارتياح الملا عمر لما بذله بن لادن في ترقية مكانة الزعيم الروحي لطالبان عبر إعلان الولاء له كإمام للدولة الإسلامية.
وما كانت طالبان لتتمكن بجهودها المنفردة أن تعلن نفسها كإمارة إسلامية في أفغانستان وهو ما جرى في سبتمبر 1996 دون إسهامات القاعدة وجهود قائده الذي دعا الجهاديين حول العالم للدفاع عن التجربة الأولى للنظام الإسلامي، ما أغرى الملا عمر وحركته لفتح البلاد لخريجي الحرب الأفغانية الذين تقطعت بهم السبل بعد انقضائها وفتح معسكرات التدريب واحتواء حشود المتطوعين الذين وصل عددهم وفق ما ذكره منظر القاعدة الشهير أبومصعب السوري (مصطفى ست مريم) إلى الآلاف، لكن من أقام وعاش فعليا في أفغانستان فعددهم 350 عائلة و1400 من المجاهدين والمهاجرين العرب ومن مختلف الجنسيات في الفترة ما بين 1996 و2001.
وطغت النظرة النفعية المحدودة لدى قادة طالبان فأعطوا مساحات حركية واسعة لبن لادن وتنظيمه ظنا بأنه لا يفعل أكثر من تمكينها من تكريس سلطتها وفرض نموذجها المحلي الصاعد، فيمَ كان القاعدة يستغل احتياج طالبان لخدماتها في الداخل ليلعب لعبته العالمية التي تشكل على أساسها في الثالث والعشرين من فبراير 1998 خلال اجتماع انعقد في معسكرين بخوست وقندهار وحضرته وفود جهادية من مصر وكشمير وباكستان وبنغلاديش، لصياغة أيديولوجية وبرنامج عمل حركة الجهاد العالمية في سياق شن ما يسمى بـ”الحرب على اليهود والصليبيين في العالم”.
وفي الوقت الذي كان يظن فيه قادة طالبان أنهم يوظفون القاعدة لحسابهم الخاص وللتمكين لحكمهم داخل أفغانستان، كان قادة القاعدة وفي مقدمتهم بن لادن يستغلون حماية طالبان لهم لتحقيق حلم قائد تنظيم القاعدة وتخيلاته العاطفية الجامحة بتوسيع الجهاد ذي الأبعاد العالمية ونشره على أوسع نطاق بكل دول العالم مستهدفا الأميركيين، بل والمسيحيين واليهود أينما كانوا، داعيا لحرب مقدسة بين المسلمين والكفار، حيث صارت المعركة كما قال بن لادن في إحدى خطبه بين المؤمنين في العالم من جهة والعالم الصليبي من جهة أخرى.
ولم يكن قادة طالبان قبل عقدين يدرون شيئا عما سمحوا بانعقاده ونموه وتطويره بالأرض الأفغانية ليستيقظوا كما استيقظ العالم صبيحة الحادي عشر من سبتمبر 2001 على فجيعة مضاعفة؛ فمن ضرب الولايات المتحدة تلك الضربة المؤلمة ومن قتل أكثر من ثلاثة آلاف مدني في عملية هي الأكبر ضمن عمليات الإرهابيين الغادرة كان قد أنضج تكتيكاته وأكسب عناصره وناشطيه المهارات العسكرية والمخابراتية والحركية داخل أفغانستان وتحت حماية طالبان نفسها.
التماسك الجهادي
لم تمتلك طالبان وقتها رفاهية معاقبة القاعدة على تجاوز حدودها والتصرف خارج صلاحيات الحركة الأفغانية ومن وراء ظهر قادتها وشن هجمات على دول العالم انطلاقا من الساحة الأفغانية، ومرد ذلك يعود إلى توخي طالبان الحفاظ على سمعتها داخل الصف الإسلامي بأفغانستان وخارجها حتى لا تفقد رأسمالها الوحيد الذي حصلته من الاستثمار في العلاقة والشراكة مع الجهاديين والإسلاميين، لذلك تحجج قادتها بواجب الضيافة الأفغانية الذي يحول دون إقدامها على تسليم ضيف مسلم استجارا بالإمارة الإسلامية إلى قوة حكم كافرة.
وتكاد تكون أحداث العقدين الماضيين لم تغير شيئا في ما يخص العلاقة التي ربطت بين القاعدة وطالبان، حيث فضلت الأخيرة أن تخوض التحدي حتى النهاية رغم الضرر الكبير الذي وقع عليها جراء نرجسية بن لادن ونكثه لتعهداته وتعديه على حدود الضيافة وتوريط الحركة الأفغانية في صراع لم ترغب فيه ولم يكن يوما ضمن برامجها وخططها.
ودخلت الولايات المتحدة أفغانستان بجحافلها العسكرية وثقلها المالي والاقتصادي وبعد عقدين خرجت خالية الوفاض مكللة بالخيبات وموصومة بالهزيمة، فيمَ المجموعة التي استقبلها برهان الدين رباني عام 1994 بعدما أعلن نفسه رئيسا لأفغانستان في ذروة الصراع والحرب الأهلية والمكونة من بن لادن وثلاثمئة من أتباعه، تظل حاضرة ويشارك قادتها طالبان الاحتفال بالنصر على الولايات المتحدة بعد عشرين سنة من الحرب في مساجد وشوارع كابول وغيرها من المدن الأفغانية.
وفضل قادة طالبان المحافظة على سمعتهم داخل الوسط الجهادي على أن يكونوا مجرد ضحية صغيرة لتغرير قائد القاعدة بهم، ورغم أن ذلك كلفهم غيابا عن تصدر المشهد وانخراطا في القتال لسنوات إلا أنهم لم يفقدوا حلفاءهم الذين يعتبرونهم الأقرب إليهم بالمقارنة بغيرهم من قوى حداثية محلية أو غربية أو حتى راديكاليين من غير السنة، لذلك عندما دخل مقاتلو طالبان العاصمة كابول منتصرين نهاية الشهر الماضي كان حلفاؤهم المفضلون من القاعدة منتشرين في نصف محافظات أفغانستان تقريبا خاصة في المناطق الشرقية والجنوبية من البلاد.
وعلى خلفية الذكرى العشرين يبدو انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وما عُد انتصارا لحركة طالبان محطة مثيرة في تاريخ ومسيرة الجهاديين؛ فهم وإن اختلف خطابهم ولم يعد تركيزهم منصبا على الولايات المتحدة كعدو رئيسي بشكل واضح، حافظوا على التزاماتهم حِيال من يشاركونهم نفس القناعات المتعلقة برفض النظم الديمقراطية على المنوال الغربي ورفض نماذج الحكم التي لا تحكم بالشريعة وفق تصوراتهم لها والتزام الجهاد الذي يستمر إلى يوم القيامة باعتباره أعلى درجات العبادة.
معادلة مريحة
الشحنة المعنوية الهائلة والثقة بالنفس التي بحث عنها بن لادن وهو يستفز الولايات المتحدة بعملية تفجير البرجين متيقنا من أن الولايات المتحدة ستخرج للانتقام وستغزو أفغانستان ليحاربها بطريقة حرب العصابات ويلحق الهزيمة بالقوة العظمى معتمدا على ستين ألف متطوع جهادي، تحصدها اليوم طالبان بعد عشرين سنة متبرئة من الهجوم خارج الحدود الأفغانية بالأمس واليوم، ومرتدية ثوب الحركة النضالية التي دحرت الغزاة وحررت الأرض من المحتلين.
وتبدو طالبان أكثر اطمئنانا من أي وقت مضى في ما يخص علاقتها بالقاعدة تحديدا، فرغم أنها لا تزال وطيدة ومتينة ولا يزال قادة وعناصر القاعدة حاضرين وناشطين بقوة في المشهد الأفغاني، تستطيع طالبان التي تتطلع إلى تلقي الاعتراف والمساعدة الدوليين أن تزعم للولايات المتحدة ودول العالم أنها لن تتسامح مع وجود معسكرات تدريب لإرهابيين من ذوي الاتجاهات العالمية؛ فتنظيم القاعدة بعد عقدين ليس بحاجة لتكرار خديعة بن لادن مع الملا عمر لأن قادته وعناصره في أفغانستان اليوم ليس من أولوياتهم ولا ضمن برامج عملهم قرع طبول الحرب ضد الغرب والولايات المتحدة إنما السيطرة على الأرض والتنعم برفاهية السلطة.
وتتزامن الذكرى العشرون لهجمات الحادي عشر من سبتمبر مع بداية حكم الإمارة الثانية لطالبان، ورغم النهاية المخزية للحضور الأميركي في أفغانستان لا يقدر القاعدة أو واشنطن إعلان الانتصار على الآخر؛ فالقاعدة تستثمر صبرها الاستراتيجي بجانب طالبان، ومع ذلك أثبتت مجريات العقدين تضاؤل فرص المجموعة الجهادية في تركيع الولايات المتحدة.
وتترسخ بعد مرور العقدين على تفجير نيويورك والغزو الأميركي الانتقامي والمواجهات الدامية على مدار سنوات طويلة معادلة تبدو الآن مقبولة ومريحة للأطراف الثلاثة “الولايات المتحدة والقاعدة وطالبان”، خاصة مع منح القاعدة الأولوية لتعزيز وجوده ونفوذه بمناطق من العالم تسكنها أغلبية من المسلمين وتعاني من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وأفريقيا وأجزاء من آسيا وعدم شن هجمات في دول غربية.
وتشجع هذه المسألة طالبان على تثبيت علاقاتها بالقاعدة دون إعلان رسمي، الأمر الذي لن تعارضه الولايات المتحدة ما دامت قد ضمنت عدم إلحاق أضرار بمصالحها أو تعرضها للاعتداء.