في ذكرى عاصفة الصحراء

هي بقايا من أطلال ذلك الزمن المحذوف من سجلات الذاكرة لأغلب العراقيين، ربما لأن غبار النسيان قد أحكم غطاءه على هذه الذكريات أو لأننا اعتدنا التناسي والنسيان.
الجمعة 2024/01/19
أيام صعبة ومهولة غيّرت مجرى التاريخ

توقفت عقارب الساعة والأيام عندما أعلن التاريخ أن ذلك اليوم ليس عاديا للعراقيين، وتحديدا ليلة 16 – 17 يناير – كانون الثاني 1991، فقد فتح الجحيم أبوابه لهم تماما كما يحدث في غزّة اليوم في تشابه الفعل والفاعل.

في تلك الليلة التي غاب عنها القمر تعالت أصوات الذئاب معلنة بدأ العدوان الأميركي على بغداد بعملية سُميّت “عاصفة الصحراء”. كان العراقيون يحبسون أنفاسهم في تلك الساعات وهم بانتظار القرار الأممي الذي سيقره المجتمع الدولي بحق بلدهم بعد أن غزا نظام صدام حسين دولة الكويت في الثاني من أغسطس – آب 1990 واعتبرها المحافظة (رقم 19).

لم تعبر سوى ساعات قليلة على منتصف تلك الليلة حتى صدر القرار الدولي من مجلس الأمن باسترجاع الأراضي الكويتية لأصحابها وإخراج الجيش العراقي منها.

◙ عاصفة الصحراء انتهت بانسحاب الجيش العراقي من الكويت بأبشع المشاهد وأقسى ثمن لتبدأ بعدها رحلة الحصار الاقتصادي وتلك حكاية أخرى

لم يكتف التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بأعماله العسكرية ضمن حدود دولة الكويت، بل امتدت الطائرات المقاتلة وعبرت المساحة الجغرافية للعراق واجتازت الحدود لتصل إلى قلب العاصمة بغداد. وقبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود من صبيحة السابع عشر من يناير – كانون الثاني كانت أسراب الطائرات تقصف البنى التحتية من مبان ومحطات المياه والكهرباء ومعسكرات الجيش والوقود والشوارع التي لم تنج من ذلك القصف. يمكن توصيف المشهد بأن الأرض كانت تلتهم البشر والحجر، حقاً كانت ليلة فتحت فيها الشياطين أبواب جهنم على العراقيين حين غطّت سماءهم طائرات التحالف بقيادة الولايات المتحدة لقصف كل شيء ثابت أو متحرك بعملية “عاصفة الصحراء” التي اجتاحت هذا البلد حيث لم تبق ولم تذر.

لم ينم العراقيون ليلتها من شدة القصف والتدمير، كان المشهد يوحي بأن الأرض والسماء توحدتا في ينابيع نار جهنم، حيث السماء ملتهبة بصواريخ وقاذفات التحالف الدولي وهي ترمي بشرر حممها على العراقيين ومنازلهم ومنشآتهم، صدمة أفزعتهم وجعلت النوم يرحل عن جفونهم بانتظار الفجر ليشدّوا الرحال إلى حيث يجدون ملاذا آمنا يقيهم ذلك القصف المرعب والجحيم الأحمر.

في تلك الأيام تحولت بغداد إلى مدينة أشباح غادرتها العوائل خصوصا تلك الليالي الظلماء التي كانت تُخيّم على أهلها المتبقين الذين لا ملجأ لهم سوى التقوقع في بيوتهم على أضواء الشموع والفوانيس مصادر الطاقة التي يتجمعون حولها، والراديو وسيلة الاتصال الوحيدة التي تربطهم بالعالم الخارجي عندما كانت آذانهم تسترق السمع لصوت إذاعتيّ “مونت كارلو” و”بي.بي.سي” وهما تتسابقان في نشراتهما لإذاعة أخبار الهزائم والحرائق والانفجارات وقصص الموت التي تخطف المدنيين والجنود المهزومين.

السخط على صدام حسين ونظامه قد ظهر وتعالى لما وصل إليه حال الشعب نتيجة أخطائه، لكن الواقع يخبرهم بالنهاية للاستسلام.

البعض من العراقيين راح يوجه اللوم لأولئك الجنود الذين يتخذون من مدارس الطلبة القريبة من المناطق المأهولة مقرات لهم خوفا من قصف طائرات التحالف، لكن في النهاية كان الغاضبون يدركون أن الجنود ليسوا سوى مساكين فُرض عليهم التجنيد الإلزامي.

بغداد تحولت إلى كابوس أو مدينة استقرت في قعر الجحيم عندما غادرها أهلها إلى المحافظات أو الملاذات التي اعتقدوا أنها آمنة من القصف، في حين كان الموت يُطبق عليهم من كل مكان.

انقطعت كل وسائل الاتصال والتواصل، وأصبحت وسائل المواصلات والحركة شبه معدومة بسبب القصف الذي استهدف محطات الوقود.

◙ السخط على صدام حسين ونظامه قد ظهر وتعالى لما وصل إليه حال الشعب نتيجة أخطائه، لكن الواقع يخبرهم بالنهاية للاستسلام

كلما تصف مشهدا مرعبا ستجد أمامك مشهدا أكثر رعبا وجهنمية لتقف في النهاية عاجزا عن وصف تلك اللحظات والأيام. ما يُكتب من كلمات أو حتى مُجلدات لا يمكن وصف ما كان يحدث في ذلك الزمن المحذوف من أغلب ذاكرة العراقيين.

أيام صعبة ومهولة غيّرت من مجرى الحياة والتاريخ وكل عنوان من الزمن. لم يتبق من ذلك الزمن سوى الذكريات التي تحتفظ بها ذاكرة منهكة غادرها الكثير ممن يحتفظون بقصص أهوالها ومآسيها.

لو أُتيح للحجر أن ينطق، والنخيل أن يتكلم، والتاريخ أن يسرد قصصا عن تلك الأيام فهل تكفيه مجلدات؟

سقطت الأبنية حجرا على حجر، احترقت المصانع ودُكّت المعامل، امتلأت الشوارع بجثث محترقة ومتهرئة مجهولة الهوية، أصبح المواطن في تلك الأيام كالضحية الذي يُنفث عليها الشرر من اتجاهات متعددة ليصبح في النهاية رمادا يستحق الرثاء.

دفع العراقيون ثمنا باهظا لنزوات حاكم وفاتورة أخطائه فتحوّلت عاصفة الصحراء عقابا جماعيا من نصيب الشعب، والغريب أنه مازال يدفع ضريبة استسلامه وخنوعه لحكم الطغاة والمتحكمين بمصيره.

انتهت عاصفة الصحراء بانسحاب الجيش العراقي من الكويت بأبشع المشاهد وأقسى ثمن لتبدأ بعدها رحلة الحصار الاقتصادي وتلك حكاية أخرى.

9