في التحولات السياسية العالمية الجارية.. دُوَلٌ تُعَز وأخرى تُهان

الإعصار العالمي لن يستثني المنطقة المغاربية. لا بل إنها من مشمولاته ومن ضمنها المنازعة الجزائرية في مغربية الصحراء وهي التي نشأت في سياق نزاعات حقبة صراعات دولية وَلَّت.
السبت 2025/03/08
"الترامبية" زلزال أميركي وارتدادات عالمية

“التْرَامْبيَة”، مفهومٌ في السياسة، اكْتملت مُقوِّمات إدماجه في الإعلام السياسي، ومنه، يتجه إلى الاستقرار في الدِّراسات الجيوستراتيجية. المفهوم يمتلك حقوق تأليفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أطلقه في ولايته الأولى تحت شعار “أميركا أوَّلا”، وهو الآن بصدَد إحْيائه وتدْقيقه وإغْنائه بشعار “عوْدة أميركا”، في ولايته الثانية، التي انْطلقت رسميا قبل أقل من شهرين.

خلال الحملة الانْتخابية الرئاسية، أدْمَن المرشح ترامب إطلاق تصريحات فيها الكثير من الوُعود والوعيد، لداخل أميركا وخارجها على السَّواء. وفي الداخل كما في الخارج كثيرونَ اعتبروا تلك التصريحات مُجرَّد تعبيرٍ عن عربَدةٍ ناتجةٍ عن الإفراط في الانتشاء بشَهوَة السلطة، أو بالحُلم بها لدى المرشح للرئاسة.

ما أن تسلَّم “العمُّ” ترامب سُلطة رئاسة أميركا حتى وضع العالم أمام حقيقة أنه يعني ما يقول ويَعيه. أول ما فعله هو توقيع عشرات القرارات دُفعة واحدة، بعضها لإعادة ترتيب مفاصل الإدارة الأميركية، وأهمّها تجديد قيادة وِكالة المخابرات الأميركية. وبعضها الآخر لتأكيد التطبيق الخارجي للترامبية عبر فرض رسوم جمركية جديدة مُرتفعة على السِّلع من المنشأ الأوروبي، الصيني، الكندي والمكسيكي.

الرئيس لم يدَع وُعودَه السياسية تُجاه التوتُّرات الدولية المُلتهبة لتبرَد أو حتى لتتبخر. ضغط على رئيس وزراء إسرائيل لكي يوقف إطلاق النار في غزة، والرضوخ لبعض شروط حماس. وأرسل وزير خارجيته إلى المملكة العربية السعودية للاجتماع، الأولي، مع وزير الخارجية الروسية. واستدعى رئيس أوكرانيا للبيت الأبيض لتوقيع اتفاق استفادة أميركية من المعادن الأوكرانية، ولإطلاق مسار سلمي لوقف حرب أوكرانيا.

الحكمة المغربية في التدبير السياسي لعلاقات المغرب الخارجية، صادرةٌ عن دولة قُدَّتْ من تاريخ، تَكْتنز خِبرةَ تاريخية نوْعية تقوم على الثقة في الذات وتحصينها بالاستقلالية الوطنية، ثم الانفتاح على العالَم وفتح كل نوافذ المغرب على رياحه

الممثل لدور الرئيس في أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي تصوَّر أن الرئيس الأميركي، إنما يريد أخذ صُوَر معه في البيت الأبيض، وتغليف الحدث بكلام يفتح سرابَ سلام عبر مُحادثات طويلة المسار والمَدى…

“الترامبية” كان يَلزمها مَشهدية هوليوودية لكي تكشف عن جينتها الكُوبُووِيَة. الجلسة الصاخبة في البيت الأبيض، التي “صَخَبَ” فيها ترامب في وجه “المُمثل” الأوكراني، كانت المشهد الذي أطْلق رسميا “الترامبية” الصارخة. أعلن ترامب فيه للعالم قبل زيلينسكي أنه جادّ في ما يأمُر بِه، ومُصمِّم عليه ولا حدود لغضبه من أيِّ استهانة به. طرَد الأوكراني، وفيما بعد سيُعلن وَقف كلِّ المُساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا في حرْبها ضدَّ روسيا.

تابع العالم تلك الزمجرة الأميركية في واشنطن، وحضرَت في ذهن كل أطراف الوضع الدولي، أغلب ظني، مَقولة سياسي أميركي كان نَصح فيها “أعداء أميركا بالخوف منها مرَّة ونصح أصدقاءها بالخوف منها مرتين.”

أياما قليلة بعد واقعة البيت الأبيض، دعا الرئيس الفرنسي القادة الأوروبيين وحلفائهم وخبراء للاجتماع في باريس للتباحث في تداعيات “الترامبية” على أوروبا. اللقاء صاحبه حديث إعلامي، في شكل “اكتشاف” تبعية أوروبا للاقتصاد الأميركي، ضُعفها العسكري ورخاوَة اتحاد دولها.

في اللقاء، رئيس الوزراء البريطاني قال بأنه سيشتغل هو والرئيس الفرنسي على اقتراح مخطط سلام، بشأن حرب أوكرانيا، لعرضه على الرئيس الأميركي. أما زيلينسكي فعاد إلى التعبير عن أسفه مشددا على امتنانه لأميركا وعن استعداده لتوقيع الاتفاق المعدني مع ترامب وجاهزيته لوقف إطلاق النار والبحث عن اتفاق سلام مع روسيا. وهو اليوم، يجَهز بدلة مدنية محترمة على أمل أن يدعوه الرئيس ترامب لحفل الشكر والتوقيع.

“الترامبية” مُتَغيِّر في الأوضاع الجيوستراتيجية، فيما يشبه زلزالا بمَركزه الأميركي وارتداداته العالمية.. وضمنها المنطقة العربية، و”الترامبية” ليست من مزاج دونالد ترامب، هو يُضفي عليها نَكَهات من شخصيته، إنها تعبير عن مصالح المجمَّع الصناعي الأميركي المدني بمُلحقاته العقارية والمعلوماتية والخدماتية. ترامب يُعبر فيها عن توجُّهات الدولة العميقة الأميركية. له أسلوبُه الشخصي في التعبير السياسي، المتوسل ببهلوانية تواصلية مدروسة. الرئيس لا يخوض إلا في ما تملَّك من ملفات وفق المصلحة الأميركية.

في ندوة صحفية، مُؤخَّرا، سألته صحافية أفغانية عن علاقة الإدارة الأميركية بطالبان. تلك العلاقة ليست شاغله اليوم. ليست شاغل الدولة العميقة الأميركية.

أجاب ترامب الصحافية الأفغانية مُبْدِيا إعْجابَه بـأناقتها وبالرنَّة الموسيقية في لكنتها الإنجليزية، وتمنّى لها ولبلدها السلام. تملُّصٌ ذكي وأنيقٌ وتخلُّصٌ من موضوع شائك، هو من مَنْسيات أميركا اليوم…

تحولات جيوستراتيجية جارية التشكّل في الوضع العالمي، ستؤدي إلى إعادة ترتيب انحيازات العديد من بلدان العالم إلى القوى الوازنة في حركية الصراعات الدولية. ولذلك، بالتبعية، تداعياتٌ على بُؤَر التوتُّر الساخنة، والتي تستقطب احتكاكات دولية مُدوية، من حيث إخمادها أو، أقلّه، التخفيف من حدّتها.

تحولات جيوستراتيجية جارية التشكّل في الوضع العالمي، ستؤدي إلى إعادة ترتيب انحيازات العديد من بلدان العالم إلى القوى الوازنة في حركية الصراعات الدولية

أوكرانيا واحدة من تلك البؤر القابلة للإخماد. وفي ذلك تتقاطع مصالح روسيا مع أميركا ولن تتأخر أوروبا عن الاندماج في تلك التقاطعات. وضع منطقة الشرق الأوسط أكثر تعقيدا بسبب العدوانية الإسرائيلية الساكنة في هويتها، ولكن التداعيات الجيوستراتيجية العالمية، قابلة بأن تفكك بعض اشتباكاته. “الترامبية” ستفرض ذلك وتحث عليه لصلة الشرق الأوسط بالوضع العربي عامة ولتماسِّه مع آسيا. طبعا، في كل ذلك مصالح اقتصادية وإستراتيجية كبيرة وبعيدة المدى لأميركا، خاصة في سياق صراعها الحاد مع الصين أساسا.

هذا الإعصار العالمي، لن يستثني المنطقة المغاربية. لا بل إنها من مشمولاته. وفيها المنازعة الجزائرية في مغربية الصحراء، وهي التي نشأت في سياق نزاعات حقبة صراعات دولية وَلَّت، وهي حقبة الحرب الباردة، رغم أن تلك المنازعة كان له منطقها الخاص الذي لا صلة له باستقطابات الحرب الباردة لما بعد الحرب العالمية الثانية. هو نزاع من إنتاج وهم جزائري بالتموقع في ريادة أفريقية، لا تملك لها مقوماتها، وأموال الغاز السائلة وحدها لا تصنع ريادة قارية، فضلا عن أن محاولة عزل المغرب عن امتداده الأفريقي بزرع دَوَيْلَة مُصطنعة تملكها الجزائر لعزل المغرب عن أفريقيا لن ولم تضعف الجاذبية الأفريقية للمغرب. في الحالتين، حوالي خمسين سنة من تغذية نزاع الجزائر ضد المغرب، لم تفعل سوى التكريس الوطني لاسترجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية وتثبيت وحدته الوطنية، أرضا وشعبا، بكل ما أثمره ذلك من توسع وتعمق للاحتضان الدولي لتلك الحقيقة. وأيضا في الحالة الثانية، المغرب الأفريقي هو اليوم أقوى وأوضح وأفعل في أفريقيته وأكثر تنافُعا مع أفريقيا.

في الوضع الدولي الراهن ومستجدات تحولاته الجيوستراتيجية، المنازعة الجزائرية في الحق الوطني المغربي باتت شاذة ومُشوِّشة ليس إلاَّ، وعلى علاقات الجزائر أوَّلا، في أفريقيا وفي الفضاء المتوسطي. وهي منازعة تُرهق قيادة الجزائر اليوم، في محاولة استعادة علاقاتها مع إسبانيا التي هي مَن وتّرتها بسبب انحياز إسبانيا للحق المغربي، وقيادة الجزائر هي التي تعاني اليوم من أزمتها مع فرنسا، وهي التي أزَّمَت علاقاتها معها، أيضا، بسبب اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء. وتلك القيادة هي التي تتَصيّد كل مناسبة لمجاملة الولايات المتحدة، مُتغافِلة عن اعتراف إدارة ترامب بمغربية الصحراء.. تتجنب إشعال الغضب الأميركي عليها. ومع هَزيز عاصفة “الترامبية” ترفع قيادة الجزائر منسوب إرضائها للإدارة الأميركية، ما يفضح لمن لا يعرف، أن موضوع الصحراء لدى الجزائر مُجرّد عكّاز لحقدها ضد المغرب، تستعمله بانتهازية وانْتقائية في علاقاتها الخارجية.

اختيار التوازن والانفتاح في علاقات المغرب مع فُرقاء الصراعات الدولية، مسلكٌ نهجته الدبلوماسية المغربية منذ استقلال المغرب. يحترم التحالفات الدولية دون أن ينحشر فيها، وعلاقاته مع قواها الفاعلة فيها تميزت دائما بالتقدير المتبادل، وبحدود واضحة للتعاون، وكان ذلك حتى والحرب الباردة على أشدها في خمسينات وستينات القرن الماضي. ومن هنا ليس على المغرب أن يُغيِّر جلده ولا أن يتعب ليجد له موقعا في التحولات الجارية. إنه ثابت في اختياراته وواضح فيها. في نزاع الصحراء، المغرب في الموقف الصح، المدافع عن حقه الوحدوي الوطني، الذي يستقطب التفهُّم الدولي وينسج حوله الشرعية الدولية، وترامب، الذي يفزع بلدانا، من بينها الجزائر، لديه وضوح في معطيات النزاع، وله موقف صريح فيه مناصر للمغرب، منذ أكثر من أربع سنوات.. أي قبل أن يعود إلى الرئاسة الأميركية بهذه السرعة القصوى في “الترامبية”.

لندع “الترامبية” بمفاعيلها وشأنها، يهمني هنا المغرب.

الحكمة المغربية في التدبير السياسي لعلاقات المغرب الخارجية، صادرةٌ عن دولة قُدَّتْ من تاريخ، تَكْتنز خِبرةَ تاريخية نوْعية تقوم على الثقة في الذات وتحصينها بالاستقلالية الوطنية، ثم الانفتاح على العالَم وفتح كل نوافذ المغرب على رياحه. لذلك وَجد المغرب نفسَه مُندمجا وفاعلا في الاتجاه العام والصحيح للتاريخ. في العالم كما في المنطقة المغاربية، هَديرُ الاهتزازات الجيوستراتيجية يُسمَع هناك وهُنا. والمغرب جاهزٌ للإفادة منها وبما ينْفَعه، وهو كان دائما مُمْتلكا للَوَاقط التحوُّلات تلك بما يُمكنه من التمَوْقُع فيها مُفيدا وفاعلا لغيره ولمَن أراد وتعقَّل من جيرته ومُحيطه.

9