فوانيس البصرة وسنابك خيل الفقيه

دمٌ طازج ودافئ ومشّع، يحكي قصة تلك الأرواح النقية التي صعدت إلى السماء ليلة البارحة، لتديم أسطورة المدينة في وجدان التاريخ، وتسطّر مفردات الحالة البصرية الفريدة بواسطة وجع الأمّهات وحيفهن.
الأحد 2018/09/09
بقاء بناء أحرقه المتظاهرون

البصرة بكل مخيض أوجاعها وسحرها الغامض ونبوءاتها ونزيف أحلامها وحرقتها الأبديّة، تتوكأ اليوم على جراحها وتعض على آلامها لتعقد مؤتمرا للرواية فيها، أو لا تعقده! لا يهم، طالما ثمّة نبض في عروقها يُنبئنا بأنّها لم تزل على قيد الحياة وعلى قيد العشق والمحبّة، ومازال دراويش الحكاية يجوبون طرقاتها ليلا حاملين فوانيسهم الخضر عاليا لينيروا الدروب لتلك الأرواح الطيّبة الخافقة وسط جوانح المدينة، مثل عيون سحرية تلتقط بقايا التاريخ وتنثر الحكايات الآسرة، حتّى يخالها الرائي من بعيد، من عمق الخليج، نجوما خضرا سقطت ذات ليلة مقمرة في أزقّة المدينة وأبلّتها ومعقلها، تلك النجوم التي تحولت اليوم إلى شظايا أحلام مبعثرة مغمسة بالدم من فرط العنف، فخرج الصبية لالتقاطها وجمعها في أطراف دشاديشهم، قبل أن يخرج جنود الفقيه الجدد من قشلتهم متحاملين على خوفهم وجبنهم وخستهم.

وفي الضحى، إذا كان الجو صحوا ودخان القنابل المسيلة للدموع قد تبدد، يستطيع الرائي مشاهدة المئات من هؤلاء الصبية وهم يجمعون بقايا النجوم الخضر وفتات الأحلام في الأحواز المتاخمة والبساتين السود من فرط الظلال، حيث ستينع آمالا خضرا وستفرش حصران الكفاف تحت ضفائر النخيل المعقود فوق الرؤوس، وحيث سيغني سحرة المدينة وصبيتها وعاشقوها ومأسوروها وعبدتها ومجانينها ودراويشها من جديد على أنغام الخشّابة “بَسّ يا بحر” و”جاءني المحبوب في ليل الغسق” و”هلا باللي لفاني يا هلا به”، طالما ظلت يوتوبيا البصرة عالقة في أذهانهم وقائمة في عقولهم ومعلقة وسط أرواحهم مثل أيقونة خضراء تدرأ عن مدينتهم الشّر.

تحظى البصرة، المدينة والمدرسة والحالة، بمكانة مؤثرة وعميقة لدى العراقيين عامّة والمثقفين منهم بصورة خاصّة. وهذه المكانة لا تعود إلى حجم المعرفة البصريّة وما قدّمته من خدمة جليلة وتأسيسات رائدة في مجال العروض والشعر والفلسفة والخيال وعلم الجمال والرقة والطيبة والأصالة وحسب، بل تتعداها إلى حالة وجدانية خاصّة تكونها حزمة من المشاعر والتأثيرات والإحالات والتناغم النفسي والوجداني، ظلت تتضافر في عقول وأرواح أغلب المثقفين العراقيين. إنّ ما أسميته الحالة البَصْريّة، قد يعود إلى جملة من المفردات التكوينية المتمثلة بخصوصيتها الجغرافية والبيئية والتركيبة الأخلاقية لدى البصريين وتناقض مجريات التاريخ على عتباتها. فمعرفيا ثمة الخليل بن أحمد الفراهيدي وعلم العروض وسيبويه وعلم اللغة وأبوالأسود الدؤلي وعلم الكتابة والحسن البصري وعلم التصوف وإخوان الصفا وعلم الفلسفة. أما حداثويا فثمة بدر شاكر السياب ورهافته المأساوية وكاظم الحجاج ووجدانيته العالية ومحمود البريكان وبوحه النبيل ومحمد خضير وفتوحاته السرديّة وكاظم الأحمدي وعروجه الحكائي. لكن في الجانب الآخر ثمّة مرويّات البحّارة وقصص السندباد والشاطر حسن وتقاليد الضيافة وطقوس الغرباء واكتشافاتهم وما يضفونه على المدينة من سحر وغموض وتداخل في التجارب والانفتاح.

كل بحّار يطأ أديمها وينهل من مائها ويأكل من تمرها لا بد أن يترك فيها جزءا منه، وكل مغامر يصلها على ظهور السفن الخشبية ويقضي الليل في حاناتها لابد سيترك جزءا من أحلامه فيها، وكل بهلول أو متصوف أو مجنون أو حالم أو مأسور أو مأخوذ، حتى أصبحت البصرة محطّة لبقايا الأحلام والمغامرات وقصص الحب والتعبد والتسامي والرفعة والتحضر والسحر، تلك البقايا التي انصهرت كلّها عبر التاريخ لتكوّن لنا ما أسميته الحالة البصرية، أو مكنون الطيبة والتخيّل والقدرة على الخلق واختلاط الشعر بالتجارة بالعشق بالتأمل بالكدّ اليوميّ، منذ كان مربدها هايد بارك تاريخي أرسى قيم الجدل الفكري وحرية المعرفة والرأي والتفكير والطروحات المتمردة والبوح بالأهواء وما يجول في قريحة الشعراء من صور بكر متمردة غير خاضعة للتدجين الحضري، ومحطة لتنقيح اللغة الجارية على ألسنة الأعراب القادمين من عمق الصحراء إلى أفياء المربد حيث تختلط القيم والمنافع والعادات والتقاليد.

لكن على الرغم من هذا كلّه، لم يكن الماضي ولا الحاضر خفيفي الوطأة عليها وعلى أهلها ومثقفيها، بعد أن تضافرت عليها الحروب وجرت أنهار الدّم في سواقيها وعروقها الجافلة، وبما أنّها بوابة العراق وكوّة تطلعاته نحو البحر البعيد وعتبته النديَّة، فقد وطأها بخيله كل طامح وطالب سلطة ومطالب بثأر وغاز زنيم ومكّار خبيث ومراب ساع إلى صندوق الأسرار وخزائن المعرفة في ما بعدها من بطاح الكوفة وبغداد، بينما دكّها الإنكليز مطلع القرن التاسع عشر دكا وجلبوا لها جنود السيخ والكركة من أواسط آسيا ليجفلوا قلب بغداد من وراءها ويقيموا شركة الهند الشرقية فيها.

ثم دكّها الإيرانيون بصواريخهم العمياء وقطّعوا أوصالها وفكّوا ضفيرة النخل المعقودة منذ قرون على شواطئها، ليمتزج الدم بمخاضة الدهلة المتدحرجة من جنّة عدن شمالها وممالح الفاو وأشجار الحنّاء ومكابس التمور ومصائد الأسماك جنوبها. ثم دكّها الأمريكان بصواريخهم وقنابلهم الذكية وقوضوا مصانعها وجرّفوا مزارعها، حتى راح النفط الأسود المخلوط بالدّم يجري في شطوطها بدل الماء العذب، قبل أن يدكّها مغول العصر الجدد بشرائعهم السود وأعرافهم الهجينة وفساد أرواحهم حتى أجفلوا روحها وسمموا مياهها، وما زالت تنزف دما ودموعا وأحلاما حتّى يومنا هذا.

وعلى الرغم من رقّة شمائل أهل البصرة وطراوة طباعهم ولين معشرهم، إلّا أنّهم أباة ضيم وعزيزو نفس، حتّى أن العثمانيين كانوا يضطرون إلى الانسحاب ليلا من المدينة إلى قشلتهم في الأبلّة ويتركون المدينة لثوارها يسيطرون عليها ليلا بانتظار بزوغ شمس النهار ليعيدوا سيطرتهم عليها، فترسخت في نفوس البصريين روح الثورة والتمرد عبر التاريخ، غير عابئين بما إذا كانت تلك الثورات عنيفة ومعربدة كثورات الزنج والخوارج والقرامطة، أو ناعمة وعميقة كمذهب الأشاعرة وإخوان الصفا والحسن البصري، التي أحدثت تصدعا مهولا في جدار النمطية الفكرية الصلد وفتحت أبواب الاجتهاد والخيال في مجال الفيض الربّاني والتأويل.

واليوم عندما تداعب ريح أيلول المحملّة بالرطوبة غبش المدينة المفترشة تحت سنابك خيل الفقيه وأتباعه الأذّلاء وأقنانه، لا بدّ سيلحظ المرء وشم الدّم على حجارة الأرصفة. دّمٌ طازج ودافئ ومشّع، يحكي قصة تلك الأرواح النقية التي صعدت إلى السماء ليلة البارحة، لتديم أسطورة المدينة في وجدان التاريخ، وتسطّر مفردات الحالة البصرية الفريدة بواسطة وجع الأمّهات وحيفهن. أقصد أولئك الأمّهات اللواتي يحملن قلوبهن على أكفهن ويتصدرن مواكب التشييع، ثم يُضربنّ بالغازات المسيلة للدموع، فتنضح مآقيهنّ دموعًا وتنكسر مكابرتهن، ثم يغسلنّ عيونهنّ بالماء المالح، فيزددن نزفًا، حتى تتراءى لهنّ البصرة من خلال الدموع، مثل ثرية معلقة وسط عذوق النخيل العالية ومطرزة في ابتسامات الشهداء.

12