فلسطين الأوروبية واغتراب حماس

إذا كانت قضية فلسطين بالنسبة إلى المجتمعات الغربية الجديدة هي قضية حقوق إنسان وتقرير مصير قومي وقضية مساواة فهل يرفض المخيال الغربي أن يشرك المقاومة الإسلامية ورموزها ومصطلحاتها في هذه القيم؟
السبت 2023/11/25
قضية أعمق من التمثلات الدينية

ما لفت الأنظار حقاً في العدوان الإسرائيلي على غزة هو تحول القضية الفلسطينية إلى قضية عالمية ليس فقط باعتبارها قضية إنسانية، بل أكثر باعتبارها قضية تحررية تقدمية، وذلك على الرغم من أن من يمثل هذه القضية في هذه المجابهة على المستويين العسكري والسياسي هي حركة حماس الإسلامية والمدعومة في مقاومتها للاحتلال من كافة أطياف الشعب الفلسطيني. فلماذا تم دعم فلسطين في المجتمعات الغربية وفي نفس الوقت تم إسقاط المقاومة الإسلامية وفكرها ورموزها من صورة فلسطين في المخيال الغربي؟

صحيح أن فظائع الحرب التي لا يطيق مشهدها الإنسان السوي قد استفزت – وبشكل فطري – المجتمعات الغربية قبل الشرقية، تلك المجتمعات التي كتمت عنها الرواية الحقيقية، وأخفي عنها لزمن طويل الوجه البشع للصهيونية الكولونيالية التي تقوم بعملية تطهير عرقي منظمة داخل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت ستار الدولة المتطورة المتنورة بنور الحضارة الغربية وقيمها الإنسانية.

على الرغم من كل تناقضات المجتمعات الغربية، فقد تم التفاعل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية عادلة حان الوقت لحلها من جذورها، وإرساء السلام والحماية للفلسطينيين من إبادتهم أو ترحيلهم

منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 قدمت إسرائيل نفسها على أنها تواجه جزءاً مما يسمى “الإرهاب الإسلامي” الممتدة جذوره في العالم العربي، باعتباره نقيضاً طبيعياً للغرب بل وتهديداً له ولقيمه. وفي عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، ومنذ لحظة ما يسمى بـ“استرداد المبادرة” بعد حوالي ثلاثة أيام من هذا التاريخ والتي تمثلت بحملة الإبادة الوحشية على القطاع، ركنت إسرائيل إلى أن حملة الإبادة تلك – والتي كان واضحا منذ اللحظة الأولى أنها تفتقر إلى منطق عسكري مقبول – ستستقبل باللامبالاة إجمالاً من قبل المجتمعات الغربية، أو في أحسن الأحوال بقليل من المبالاة لدى تلك المجتمعات خاصة في ظل توقعات أن تنحصر ردة الفعل لدى الأقليات الإسلامية المهاجرة التي تعتبر هامشية ومرفوضة إجمالاً من تلك المجتمعات في إطار ما يعرف بـ“الإسلاموفوبيا”.

السبب في ذلك هو أنه تم تصنيع الرواية المجهزة للاستهلاك الغربي من خلال حشو كلمة “داعش” وإقرانها بـ“حماس” منذ اللحظة الأولى للإعداد للعدوان وتنفيذه، حيث أن كلمة داعش هي كلمة السر التي تصيب ردة الفعل الغربية الممكنة بمقتل، حيث بدأت الماكينة الإعلامية الإسرائيلية والغربية وبمشاركة رئيس الولايات المتحدة وبعض زعماء الغرب (رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومفوضة الاتحاد الأوروبي أرسولا فون دير لاين) بتخليق متلازمة “حماس – داعش” في خطاب الحرب، وذلك بغية تحشيد المجتمعات الغربية خلف الحرب غير العادلة وغير الأخلاقية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

هذا الخطاب الجديد المخلّق كان هدفه القريب تبرير الغطاء السياسي والعسكري الذي قدمته تلك الدول لإسرائيل من ناحية، ولكن هدفه البعيد كان تنفيذ النكبة الجديدة بترحيل سكان القطاع تمهيدا لترحيل سكان الضفة الغربية بواسطة ميليشيات المستوطنين الإرهابية وبدعم الجيش الإسرائيلي.

أما في فلسطين نفسها، وفي العالم العربي إجمالاً، فقد انبنى العدوان على افتراض انقسام الخطاب والسياسة بين العلماني – القومي الحاكم والإسلامي المعارض بحكم ما شهده العالم العربي من ويلات الربيع العربي التي كان هذا الانقسام هو ديدنها، والذي بالمناسبة لم تكن دوائر صنع القرار الغربية بعيدة عن إدارته وتوجيهه منذ بداياته من خلال تغذية طرفيه في وقت واحد سواء في حرب العراق عام 2003، وانقلاب حماس على السلطة الفلسطينية العلمانية في غزة عام 2007، ومن ثم انفلاته بشكل سافر عام 2011 في الربيع العربي، وما تلاه من مسلسل دموي مزق العالم العربي من مغربه إلى مشرقه، واستمراره حتى 7 أكتوبر، موعد الحرب التصفوية ضد الفلسطينيين وقضيتهم.

بهذين البعدين، اللذين يقع الإسلام السياسي العربي – بما فيه حماس – في مركزهما، تأسست فرضية الحرب اللاأخلاقية بستار أخلاقي وهو الحرب على داعش و"الإرهاب الإسلامي" ضد إسرائيل والغرب، بافتراض قلة مبالاة المجتمعات الغربية من جهة وصمت دول عربية من جهة ثانية.

ومن أجل منح العدوان صبغته المنطقية تم اختلاق وتركيب رواية داعشية تقليدية لهجوم حماس على ما يعرف بمستوطنات الغلاف في إسرائيل تحتوي على كل العدة الداعشية المعروفة من تقطيع الرؤوس والاغتصاب وحرق الأطفال.

من أجل منح العدوان صبغته المنطقية تم اختلاق وتركيب رواية داعشية تقليدية لهجوم حماس على ما يعرف بمستوطنات الغلاف في إسرائيل تحتوي على كل العدة الداعشية المعروفة من تقطيع الرؤوس والاغتصاب وحرق الأطفال

لكن ما حدث أن إسرائيل وأصحاب القصة الداعشية قد سقطوا في حبائل روايتهم التي لم تصدقها المجتمعات الغربية التي سرعان ما تفاعلت مع المشهد الفلسطيني بطريقة غير منتظرة.

صحيح أن حماس والإسلام السياسي عموماً لا يظهران في المجتمعات الغربية بصورة إيجابية، إن لم يظهرا بصورة سلبية قاتمة في المجتمعات الغربية على اختلاف تنوعات تلك المجتمعات بين ما هو سياسي أو أيديولوجي أو ثقافي، وفي نفس الوقت، مرة أخرى على الرغم من كل تناقضات المجتمعات الغربية، فقد تم التفاعل مع القضية الفلسطينية كقضية إنسانية عادلة حان الوقت لحلها من جذورها، وإرساء السلام والحماية للفلسطينيين من إبادتهم أو ترحيلهم. وهنا قدمت القضية نفسها كموضوع وليس من يمثلها أو يقودها في المعركة.

وليس أدل على ذلك من أن رمزين أساسيين للقضية الفلسطينية تم رفعهما في المظاهرات والاحتجاجات العارمة هما العلم الفلسطيني والكوفية الفلسطينية السمراء وهذان الرمزان عادة ما يمثلان القضية الفلسطينية حتى قبل ظهور حماس وخطابها ذي الطابع الإسلامي الجهادي والذي سعت إسرائيل لإظهاره بصورة داعشية كما أسلفنا.

لم تظهر رموز حماس أو شخوصها أو هتافاتها، بل إن صورة المسجد الأقصى المقترنة بالقضية الفلسطينية عادة لم تظهر في تلك المظاهرات والاحتجاجات على الرغم من أن الحرب الحالية تحمل مسمى طوفان الأقصى، وعلى الرغم من أن انتهاكات اليهود المتطرفين للمسجد الأقصى المبارك كانت على الدوام من المحركات الرئيسية لثورات الشعب الفلسطيني، فإن تلخيص قضية فلسطين بهذين الرمزين (العلم والكوفية) واللذين ظهرا في فترة نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية العلمانية في خمسينات وستينات القرن الماضي يحملان ضمنا معنى تجاوز الجانب الديني الإسلامي من القضية الفلسطينية.

لكن ما هو السبب؟ هل لأن تلك المجتمعات الرافضة لاستمرار الاحتلال والمذابح بحق الفلسطينيين ترى في القضية الفلسطينية مسألة قومية أعمق من التمثلات الدينية؟ أم أن تلك المجتمعات منفصلة فعلا عن هذا التمثل الديني بقيمها ومعتقداتها التحررية؟ بمعنى إذا كانت قضية فلسطين بالنسبة إلى المجتمعات الغربية الجديدة هي قضية حقوق إنسان، تقرير مصير قومي، وقضية مساواة، فهل يرفض المخيال الغربي أن يشرك المقاومة الإسلامية ورموزها ومصطلحاتها في هذه القيم؟ في الواقع هذا السؤال الذي أنهي به هذه المقالة هو موضوع بحثي بحد ذاته بحاجة إلى دراسة خطاب الإسلام السياسي في الغرب ومعرفة أسباب اغتراب هذا الخطاب عن القيم الغربية التحررية وإن كانت المقاومة الإسلامية في فلسطين وربما في أماكن أخرى تحمل هذه المعاني التحررية دون أن تكون قادرة على اختراق الوعي الجمعي الغربي.

9