فكتور هوغو الآخر.. رسّام التهويمات الفنتازية

هوغو أعطى الرسم من وقته وجهده مقدار ما خصّصه لمجالات أدبه المتنوّعة.
الاثنين 2021/06/28
رسومات تجمع بين المشاهدة الحسية والخيال

عُرف فكتور هوغو روائيّا وشاعرا ومناضلا وعضوا بالأكاديمية الفرنسية ونائبا عن الشعب. ولكن كان له جانب آخر لا يعرفه إلا المقربون، ألا وهو الرسم الفني الذي مارسه في أسفاره ولحظات تأمله وأحلام يقظته. وقد ترك آلافا من الرسوم هي موضوع معرض يقام له حتى نهاية شهر أغسطس في بيته بباريس.

بعد عامين من أعمال الترميم والصيانة، وستة أشهر من الحظر الصحي، يفتح بيتُ الأديب الفرنسي الشهير فكتور هوغو بباريس أبوابه لمعرض فريد يضمّ حصيلة ما أنجزه من رسوم لم يكن يُطلع عليها غير مقربيه، ولم يعلم أهل الأدب والفن والثقافة بوجودها إلاّ بعد رحيله.

كان يمكن أن يكتفي بمؤلفاته، وعددها ستة وثلاثون، في الرواية والشعر والمسرح، ومواقفه التي حاز عنها شهرة واسعة في حياته، حتى أن باريس كلها توقفت يوم الفاتح من يونيو 1885 لتشييعه إلى مرقده بالبانتيون إلى جانب العظماء الذين صنعوا تاريخ فرنسا، ولكنه أضاف إلى رصيده فنّا آخر هو الرسم.

ولئن كان هذا الفن لدى بعض الكتاب مجرّد خربشات ورسوم عارضة، فإن هوغو أعطى الرسم من وقته وجهده مقدار ما خصّصه لمجالات أدبه المتنوّعة، فقد ترك نحو أربع آلاف ورقة (سبعمئة منها على ملك متحف بيت فكتور هوغو)، لم يعرض منها في حياته سوى القليل النادر.

وأغلب تلك الأعمال رسوم مائية، ذات منحى رومانسي وقوطي يطغى عليه السواد، سواء تلك التي تمثل قصورا بعيدة عن العمران، أم سلسلة محاكمة ساحرة التي اعتمد فيها الحبر، أم حين غادر الواقعية لينحو إلى العجيب والغريب.

وظلت تلك الرسوم مخفية عن عيون الناس، ولم تظهر إلاّ بعد وفاته، خاصة بعد أن رحّب بها السرياليون، رغم أنهم لا يتفقون مع هوغو الكاتب، إذ رأوا فيه فنانا صاحب رؤية، وشاعرا ليليا بامتياز، حيث غالبا ما يميل إلى رسم المناظر وقت الشفق، حين تغيّر الطبيعة أشكالها فتصبح فنتازية، وهو ما لاقى هوى في نفوس أتباع المدرسة السريالية.

وما ظهر منها، في مناسبات قليلة حتى بعد وفاته، يكاد يحصره في مناظر حلم وتهويمات فنتازية، لاسيما أنها هشّة لا يمكن عرضها دائما خشية إتلافها، والواقع أنها كانت أكثر تنوّعا وثراء، وهو ما حرص جيرار أوديني، مدير بيت هوغو، على إبرازه في هذا المعرض.

لم يتعلم هوغو الفن في مرسم أو مدرسة فنون، بل كان عصاميا، يمارس فنّه وحيدا حين يخلو إلى نفسه، وإن خالط في بداياته بعض الفنانين الرومانسيين، وخاصة صديقه سيليستان نانتوي (1813-1873) الذي لعب دورا هاما في تطوّر ممارسته الفنية، كما حاور بعض النقاشين واستفاد من تجاربهم، دون أن يدّعي يوما أنه فنان محترف، فقد كان أمْيَل إلى العمل وحيدا، يتجاذبه الفاتن والمثير للسخرية، وتأمّل الطبيعة والنقد الأخلاقي أو السياسي الساخر، وهو ما طبع مسيرته في هذا الفن طوال حياته، حيث ظلت أعماله تتراوح بين المناظر الطبيعية والكاريكاتير.

المعرض الباريسي يضمّ حصيلة ما أنجزه فكتور هوغو من رسوم لم يعلم أهل الأدب والفن والثقافة بوجودها إلاّ بعد رحيله

هذه الازدواجية نجدها أيضا في حياته المدنية، فقد كان متزوّجا من أديل فوشي، ولكنه عاشر طيلة نصف قرن الممثلة جولييت دْرُووِي التي جعلت من بيتها مرسما له، وكانت أول من تابع مسيرته الفنية وجمع نتاجه وحفظه.

إلى جانبها، بدأ هوغو يأخذ الرسم مأخذ الجدّ، خصوصا خلال أسفارهما السرية، بعيدا عن أعين الرقباء. وكانت البداية هنا برسوم كاريكاتيرية، ينتقد فيها أوضاع المجتمع البائسة، ويدين عقوبة الإعدام، كما في قضية المرأة المتهمة بتعاطي السحر، حيث ينقل صورا عن هيئة المحكمة، وعن المرأة التي تتمسّك ببراءتها، وعن الحاضرين الذين يتابعون المشهد كما يتابعون عرضا مسرحيا أو موسيقيا، قبل أن ينتقل إلى نقد من كان سببا في نفيه، أي لويس نابليون بونابرت الذي انقلب على الجمهورية الثانية عام 1851، ونصّب نفسه إمبراطورا تحت اسم نابليون الثالث.

وفي تلك المرحلة، لم يكن هوغو يرسم لتحقيق متعة فنية، بقدر ما كان يتّخذ من الرسم وسيلة للتنفيس عمّا يستعصى عليه قوله، فيرسم بتوتر ويتحوّل غضبه إلى نفثة حبر أسود.

ولئن احتفظ هوغو برسومه في الدائرة الضيقة لأصدقائه، وأحيانا لمتعته الخاصة وحدها، فقد قبل أحيانا نشرها في الصحف والمجلات، لفائدة بعض الأعمال الخيرية. وقد ساهمت طباعة بعضها في خلق ألواح متسلسلة بديعة، تتجلّى فيها معالجته المتميزة للضوء والظل، وقدرته الفائقة على رسم القصور والمنارات والبيوت في عزّ الليل، بدقّة خارقة، دون الوقوع في ما يشبه الاستنساخ.

لقد كان هوغو رسّاما متفرّدا، يمارس فنه بحرية دون الانخراط في أي مدرسة، وأبدع أعمالا حازت إعجاب النقاد من جهة حداثتها وقوة إيحائها. ومع أنها تولّدت عن المشاهدة الحسية والخيال، فإنها تعكس شخصية الكاتب والشاعر والمثقف الملتزم.

بقي أن نقول إن هذا الكاتب العبقري الذي ناضل ضد عقوبة الإعدام والبؤس والشقاء والرقابة والاسترقاق، ودافع عن حقوق المرأة والطفل وحرية التعبير، كان أيضا من أشدّ المتحمّسين لاستعمار القارة الأفريقية، والغريب أن ذلك كان بدعوى إلغاء العبودية.

16