فشل خطة التهجير يفتح الباب لسيناريو الضم

غطت الحرب الأخيرة في غزة المشهد الانتخابي في مصر وأدخلت تعديلات على جدول أعمال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لتجعله حافلا بالزيارات قبل وبعد مؤتمر السلام الذي عقد بصفة عاجلة، حيث جمعته لقاءات مع قادة ومسؤولين كبار من الدول الغربية على غرار المستشار الألماني أولاف شولتس ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إضافة إلى زيارات وزراء خارجية كل من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وكندا ومؤخرا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليضع كل هذا الزخم القاهرة كمحطة رئيسية للاتصالات الدولية التي تبحث جهود التهدئة وتطلب دور الوساطة من أجل إطلاق سراح الأسرى المحتجزين لدى حماس.
وأمام محاولات الزج بها في خطة تهجير قسري يقال إنه سيتم مقابل امتيازات مادية مغرية، استشعرت مصر خطورة هذه الخطوة على أمنها القومي، وسارعت في الترتيبات والحشد لمؤتمر سلام بصفة عاجلة تؤكد من خلاله رفضها التام لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية على حسابها، وانحيازها المتواصل لرؤية حل الدولتين كأساس لإنهاء الصراع القائم. وعلى الرغم من أن هذا المؤتمر لم يصدر بيانا ختاميا يترجم توافقا دوليا وإقليميا مع مصر حول رفض خطة التهجير، إلا أن كلمة السيسي كانت كافية لتوجيه رسالة رفض مباشرة للأطراف الدولية الداعمة لهذا المشروع وتعني إجهاضه بالفعل وتزيد من صعوبة وتعقيدات الاجتياح البري لقطاع غزة.
فشل مشروع التهجير لا يعني أن إسرائيل وأميركا لا تضعان سيناريوهات وخططا بديلة لمرحلة ما بعد حماس، والتي من بينها تسليم غزة لسلطة رام الله لكن هذا سيضع إسرائيل من جديد أمام التزام حل الدولتين، وهي تسوية ستفتح الباب لانقسام كبير داخل البيت الإسرائيلي بين مؤيد ورافض له، ومع وجود تيار متطرف في قلب المشهد السياسي الإسرائيلي فإن حظوظه غير وفيرة، فضلا عن أن إسرائيل غير مستعدة لهذا الإجراء في الوقت الحالي، لما سيفرضه من واقع أمني جديد يضيف إليها المزيد من الأعباء على منظومتها الأمنية، إن لم نقل إنها ليست راغبة فيه بالأساس.
◙ المحاولات الإسرائيلية لتوريط مصر في مرحلة ما بعد حماس باءت بالفشل، وهو ما يعني أيضا أن مهمة الاجتياح البري لن تكون قابلة للتنفيذ بالنظر إلى حجم الخسائر البشرية المتوقع فيها
قد يكون سيناريو إعادة ضم قطاع غزة إلى مصر من بين السيناريوهات المطروحة على الطاولة لما يقدمه هذا المشروع من ضمانات لأمن إسرائيل على المدى الطويل، حيث أنه سيدفع بمصر للمشاركة في ثقل التحديات الأمنية مقابل امتيازات اقتصادية ومادية تتحصل عليها مقابل موافقتها على هذا الحل، وهي وجهة نظر ذهب إليها أيضا رجل الأعمال والأكاديمي الإسرائيلي إيلان جانور في مقال نشره مؤخرا عبر صحيفة إسرائيلية، معتبرا أن حاجة مصر إلى حلول اقتصادية ستدفعها إلى قبول الفكرة، وبهذا ستتجنب إسرائيل كل اللغط الذي سيفتحه تسليم غزة لسلطة رام الله.
محاولات إسرائيل إفراغ القضية الفلسطينية من محتواها باقتراح خطط فصل وضم ليست وليدة اليوم، وهي محاولات اصطدمت بجدار الرفض المصري كل ما تمت محاولة إعادة إحيائها، ففي عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك رفضت مصر الخطة الإسرائيلية “جيورا إيلاند” والتي تتركز على تبادل أراض بين مصر وإسرائيل لتوسيع مساحة غزة، ثم أعادت واشنطن طرح الفكرة في عهد الرئيس محمد مرسي مع امتيازات اقتصادية لكنها قوبلت برفض صارم من قبل المؤسسة العسكرية المصرية، ثم أعاد رئيس الوزراء السابق في دولة الاحتلال نفتالي بينيت طرحها مجددا سنة 2021 من خلال مقترح إسرائيلي لضم غزة إلى مصر وضم 60 في المئة من الضفة إلى إسرائيل مع منح 50 ألف فلسطيني من الساكنين في المناطق “سي” المواطنة الإسرائيلية، وردت مصر بتقارب مع حركة حماس وعززت قنوات الاتصال معها بأول زيارة لرئيس المخابرات المصرية عباس كامل والذي ناقش مع الجانب الفلسطيني في غزة خطة تضمن هدنة طويلة الأمد لإنعاش القطاع ضمن الجهود المصرية لأعمار غزة.
المحاولات الإسرائيلية لتوريط مصر في مرحلة ما بعد حماس باءت بالفشل، وهو ما يعني أيضا أن مهمة الاجتياح البري لن تكون قابلة للتنفيذ بالنظر إلى حجم الخسائر البشرية المتوقع فيها والذي سيضع إسرائيل في حرج كبير مع حلفائها، وقد تغامر بالموقف الغربي الداعم لها منذ بداية الحرب، وفي مقدمتهم موقف الرئيس الأميركي جو بايدن المدرك أن لحرب غزة تداعيات ستلقي بظلالها على انتخابات الرئاسة 2024، خاصة وأن أوزار حرب أوكرانيا تكفي خصومه لشن هجوم لاذع ضد فشل سياسته الخارجية في احتواء الصراعات والحروب.
ربما كان من الأحسن بالنسبة إلى صناع القرار في تل أبيب وواشنطن الاكتفاء بدور مصري في الوساطة والتهدئة بدل أن يعملوا على تسميم الأجواء والعلاقات من خلال مخططات لا تكتفي فقط بالعبث بالحق الفلسطيني بل تنسف آخر ما تبقى من أمل في إحياء عملية السلام بعد أن أصبح حل الدولتين بعيدا عن إمكانية التجسيد أكثر من أي وقت مضى، غير ذلك فإن الوضع سيبقى قائما على ما هو عليه، ولن تنجح أي محاولة لإحداث تصفية على حساب أرض مصر، والتاريخ يثبت أن القاهرة كانت دائما جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة.