فشل الدولة يحول التنوع العراقي إلى انقسام معيق للتنمية

بغداد- يرى الأكاديمي العراقي عماد عبداللطيف سالم أن التنوع لا يعيق التنمية، بل يعززها. ويؤكد، في حوار مع “العرب” أن التنوع المجتمعي لا يصبح انقساما مجتمعيا إلا إذا فشلت الدولة في بناء مشروعها الخاص، الذي يراعي تنوع المكونات المجتمعية وتعددها. ويشير سالم إلى الكثير من التجارب التنموية الناجحة لبلدان متعددة الإثنيات والأديان وشحيحة الموارد، لافتا إلى أن نجاح الدولة في بناء النظام السياسي والاقتصادي الملائم يعوّض شحّ الموارد الطبيعية والمالية، ويساهم في نجاح هذه الدول سياسيا واقتصاديا، وفي تحصين مجتمعاتها ضد التمزق والتفسخ، ومنع مكوناتها من الصراع والتشرذم.
ويشدد سالم على أن مشروع بناء دولة المواطنة وكبح جماح الطائفية ومعالجة التشرذم السياسي والمجتمعي من شأنه أن يتيح استثمار المواطنين جميعا في عملية تنموية شاملة وعادلة ومستدامة. ويوضح عماد سالم أن الانقسامات في بلدان مثل العراق ولبنان تبدو عصيّة على التسوية، وأحيانا عصيّة على الفهم، بسبب ما يسميه فشلا وهشاشة نموذج الدولة القائم، وإخفاق النخب السياسية والمجتمعية في الاتفاق على عقد اجتماعي جديد، ينتظم مشروع الدولة البديل في إطاره.
وعلى صعيد ملف الإصلاح العراقي هنالك من يطرح اليوم فكرة “الإصلاح من الداخل” عبر ترشيد السلوك الريعي للدولة مثل تقليص عدد أعضاء البرلمان والمجالس المحلية، وإلغاء امتيازات كبار الموظفين، وضبط الإنفاق الاستهلاكي وغيرها؛ لكن عماد سالم يعتقد أن هذا المسار ليس كافيا ولا مجديا، فرغم أن هذه الإجراءات ممكنة وسهلة التنفيذ، إلا أنها من وجهة نظره ليست علاجا جذريا للأسباب الحقيقية للأزمة، بل مجرد مقاربات سطحية لأعراضها ومظاهرها.
المجتمعات العربية تتمتع بالإمكانات اللازمة للنهضة، غير أن هذه المجتمعات كانت عرضة لتدخلات خارجية أعاقت نموها الطبيعي
من الأفكار التي تُطرح عادة إمكانية مقاربة الشأن السياسي اقتصاديا، ومعالجة أزماته عبر مدخل التنمية وإشباع الحاجات الأساسية، بافتراض دور ممكن وفاعل للتنمية الاجتماعية المتوازنة في تحقيق المُصالحات وتكريس السلم الأهلي، وصولا إلى الاستقرار السياسي؛ بمعنى بناء التعايش على أساس تحسين نوعية العيش ومستوى المعيشة.
لكن نجاح هذه الاستراتيجية، من وجهة نظر عماد سالم، يبقى مرهونا بحضور الرؤية والإرادة السياسيتين، إذ يفيد أستاذ الاقتصاد بجامعة النهرين في بغداد بأن الاتفاق على إبرام عقد اجتماعي جديد، ومشروع محدد للدولة، يعمل على ضمّ جميع المواطنين في إطار هوية وطنية جامعة، سيجعل بالإمكان الاتفاق على شكل محدّد للنظام السياسي والاقتصادي، ونمط مناسب للتنمية الاقتصادية.
شروط النهضة
|
يتردد مصطلح النهضة كثيرا في العالم العربي، في سياق السجال الثقافي أو الجدل السياسي، وتستدعي النقاشات نماذج كماليزيا وسنغافورة أمثلة للنهوض التنموي المُلهم. ويؤكد سالم أن كفاءة إدارة واستثمار التنوع الثقافي والاجتماعي هي أهم مقومات تلك التجارب، مشترطا للنجاح في هذا المضمار التأسيس لمنظومة قيمية/ حضارية تحترم هذا التنوع وخصوصياته، وتنتزع منه أفضل ما فيه.
ويجزم سالم بأن وفرة الموارد الطبيعية والبشرية وتنوعها في بلد مثل العراق تتيح بناء تجربة أكثر نجاحا وتميزا من التجربة الماليزية؛ لكن ذلك، من وجهة نظره، يبقى مرهونا بخلق الاشتراطات السياسية والاجتماعية للنهضة، ممثلة في بلورة العقد الاجتماعي، وترسيخ المواطنة والمفهوم السيادي للمصلحة الوطنية بعيدا عن النزعات المكوناتية، إلى جانب إصلاح أنظمة التعليم بمستوياته كافة، وبناء وترصين الأطر القانونية والدستورية للدولة.
ويؤكد أن المجتمعات العربية تتمتع بالإمكانات اللازمة للنهضة، غير أن هذه المجتمعات كانت عرضة لتدخلات خارجية أعاقت نموها الطبيعي، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. مضيفا أن هذه التدخلات، وبغض النظر عن تفاصيلها وملابساتها التاريخية، كرّست مصالح محلية مرتبطة بها، وشيئا فشيئا أصبح هذا الارتباط مصيريا، وبشكل أعاق أيّ إمكانية للتغيير الحقيقي في بنية هذه المجتمعات، وعمل على إجهاض أيّ محاولة حقيقية للإصلاح، وقضى عليها في مهدها.
وفي ظل صراع الهويات الذي يشهده الشرق الأوسط يتفاعل الجدل حول العلاقة بين معطيات التنوع الثقافي والتعددية السياسية الناشئة في بلدان المنطقة من جانب، وبين طموحات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جانب آخر، فالطائفية السياسية المتفاقمة والانقسامات المجتمعية الحادة تلقي بظلالها الثقيلة على واقع التنمية العربية، بحيث صارت جدلية التنوع والتنمية من القضايا الحيوية المرتبطة بمستقبل مجتمعات المنطقة. لكن، إذا كان الاستقطاب الطائفي وانعدام الاستقرار المجتمعي يعيقان الازدهار الاقتصادي؛ فهل يكون الحل في أنظمة سلطوية؟
في هذا السياق، يؤكد عماد سالم أن لا ارتباط تلقائيا بين الديمقراطية والتطور الاقتصادي، وأن ذلك لم يتم إثباته لا بالقياس، ولا بالتجربة التاريخية؛ لكنه يشدد على أن الارتباط بين الاستقرار السياسي والمجتمعي وبين تحقيق النمو والتطور الاقتصادي هو أمر ثابت، وهو ما يعني برأيه قدرة أنظمة استبدادية، توفّر القدر اللازم من الاستقرار والأمن، على أن تدفع باتجاه تطور اقتصادي أكبر مما يمكن أن تحققه أنظمة ديمقراطية ناشئة ومتعثرة.
الدعوة إلى التقشف أو لتبرع المواطنين للدولة لمعالجة العجز في الاقتصاد هي دعوات سياسية استعراضية تهدف إلى تحقيق شرعية إنجاز شخصية وسريعة
تفكيك الريعية
يرفض عماد سالم الحلول العاجلة والدعائية في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية، مطالبا صناع القرار بالكفّ عن تبني الخيارات الطوباوية والشعبوية في التعامل مع التحديات. ويؤكد أن الخطط التنموية التي تصدرها الحكومات العربية لا تكفي وحدها ما لم تنتظم في إطار مشروع تنموي متكامل، يعززه مشروع سياسي واقتصادي حديث ومتكامل أيضا، وطويل الأجل.
وينصح بوضع حد لهدر الموارد والتفريط فيها، لافتا إلى أن الاستغراق في السياسة الريعية غير الإنتاجية في إدارة الاقتصاد يزيد النزعة الاستهلاكية في المجتمع، ويتسبب في عبء كبير على الموازنة العامة وميزان الدفوعات، مشيرا إلى أن ما يخصص للدعم السلعي والرواتب وشبكات الحماية الاجتماعية يبتلع جزءا كبيرا من تخصيصات الموازنة العامة. كما يشدد سالم على أن الحلول ذات الطبيعة الريعية، كمقترح توزيع جزء من أموال النفط مباشرة على المواطنين، تعمّق من الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد.
ويعتقد أن الدعوة إلى التقشف أو لتبرع المواطنين للدولة لمعالجة العجز في الاقتصاد هي دعوات سياسية استعراضية تهدف إلى تحقيق شرعية إنجاز شخصية وسريعة، فهذا ليس المنطق المناسب لبناء الدول أو تصحيح المسارات الخاطئة للاقتصاد. ويؤكد سالم أن ضرورة الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص باتت بديهية.