فساد تعجز عنه الصحافة

للفساد عالمه الخاص المنغلق على نفسه. الفساد الذي وصل إلى مستوى الاحتراف صار يعرف صانعوه من أين يدخلون إليه وكيف يقدمون خطابهم لوسائل الإعلام بصفة عامة والصحافة بشكل خاص وكيف يخرجون من المسألة بسلام.
وبموازاة مظاهر الفساد الأكثر فجاجة المتمثلة في السطو العلني على المال العام واستغلال المنصب الوظيفي للإثراء غير المشروع وتضارب المصالح وغيرها، هناك السلوك المهني للشخصيات التي تؤدي وظيفة حكومية.
في الولايات المتحدة مثلا وخلال الأسبوع الماضي شهدنا السجال المحتدم على أعلى مستويات صنع القرار بعد إفادة مايكل كوهين عن سلوك الرئيس دونالد ترامب بوصفه محاميه السابق، حيث وصفه بأشد العبارات وأقساها من قبيل أنه عنصري ومخادع وغشاش…
والقصة ليست إلا امتدادا لتحقيقات فيدرالية عالية المستوى حول وجود تعاون مع الروس من طرف الرئيس، خاصة إبان الحملة الانتخابية واحتمالات تدخل المخابرات الروسية في التـأثير على النتائج.
يا ترى ماذا تفعل الصحافة وهي أمام هذه الظاهرة الاستثنائية؟
بالطبع لا يمكن للصحافة ولا لعموم وسائل الإعلام مهما كان قربها من دائرة الرئيس أن تجمّل الصورة أو تخفف من وطأة الهجوم الشرس والاتهامات غير المسبوقة، ولكن وفي الوقت نفسه هل للصحافة أن تهيّج الرأي العام وتمضي في مسار مهاجمي الرئيس وصولا إلى المطالبين بعزله؟.
وفي واقع الحال لم يبد الرئيس في مظهر من أعيته الحيلة بل انبرى كالمعتاد باستخدام مدفعيته الثقيلة، تغريداته على موقع تويتر، يواجه فيه خصومه، مواجها الشتائم بالشتائم والاتهامات بالاتهامات.
مثال لموقف الصحافة ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز، حيث قالت إن ترامب كان يهين محاميه بأقسى العبارات ويسخر منه وهدده بالطرد مرتين، وأن كوهين هو الوسيط مع الممثلة الإباحية ستيفاني كليفورد المعروفة باسم ستورمي دانيلز.
صحيفة يو.أس.إيه تودآي قالت، إن الصحافة في وضع كهذا ليس بإمكانها الجلوس مكتوفة الأيدي.
لكن ما عسى هذه الصحافة أن تفعل؟
وفي موازاة هذه الظاهرة وفي ما يتعلق بجوهر قضية الفساد، لنأخذ حالة العراق، فهناك مظاهر فساد علنية، بل إن هناك سياسيين وبرلمانيين يظهرون باستمرار أمام وسائل الإعلام ويكشفون بكل وضوح وبالأسماء والأرقام عمليات فساد ضخمة كلفت ميزانية البلد أموالا طائلة.
الغريب في الأمر أن هذه الحالة تحولت إلى ما يشبه حالة الإدمان لدى جمهور المشاهدين وهو ما تتلقفه الصحافة أيضا، فالمشاهد – كما يبدو – منجذب إلى كون القصص دراماتيكية دون أن تتسبب بأي ضرر أو محاسبة لذلك السياسي أو البرلماني الذي كشف عن المستور، وما دام الأمر كذلك فقد تشجعت أعداد أخرى من السياسيين والبرلمانيين للحضور إلى الفضائيات وتقديم ما في جعبتهم لغرض أن يكتسبوا شعبية ويصبحوا نجوما في كشف ملفات الفساد بصرف النظر عن نظافة صفحاتهم.
هي حقا ظاهرة غريبة، وسائل الإعلام من جانبها ومنها الصحافة الورقية والإلكترونية صارت تملأ الفراغ بتلك القصص وتجتذب جمهورا واسعا والكل راض بما لديه ولا ضرر ولا ضرار.
من المفارقات أن يردّ سارق على سارق أو فاسد على فاسد وينشأ سجال من نوع آخر حتى تضيع “الطاسة” من هو الفاسد الأصلي ومن هو الفاسد الفرعي ومن هو نظيف اليد.
مرّة ظهر ضيف من هذه الفصيلة على إحدى الشاشات ولكي يجعل الحوار أكثر درامية، قال إنه شخصيا قبض مبلغا ضخما من المال رشوة، وقال كلنا قبضنا، كان هذا الكلام يظهر في الإعلان عن البرنامج فلما أذيعت الحلقة قلب الفاسد المحنّك القصة وقال إنه طرف غير مباشر وإنما قُدّمت لي خدمات وما إلى ذلك وصار يسمّي أشخاصا بأسمائهم أنهم فاسدون ويشرح بالتفصيل بماذا أفسدوا.
الصحافة أمام عاصفة هوجاء من الفساد، فإذا كانت السلطات لا تقوى على القبض على الفاسد الذي يعمل جهارا نهارا فماذا بوسع الصحافة أن تفعل بعد الكلام الصريح والمباح للفاسدين؟.