فرانز بيكنباور قيصر الكرة الألمانية المتهم بالفساد

برلين - يفتخر الألمان أن عهد الأباطرة والقياصرة قد انتهى وأن سلطة الحاكم المطلق لم يعد لها وجود على أرضهم برحيل هتلر، وأن المساواة بين أبناء الوطن وقيم الديمقراطية السائدة في ألمانيا قد ألغت مفاهيم التبجيل والألقاب، إلا أنهم اتفقوا أن يمنحوا الأسطورة الألمانية الحية، فرانز بيكنباور، استثناءً ليلقبوه بالقيصر، لم يفعلوا ذلك مع غوته ولا مع نيتشه، إذ أن ما فعله بيكنباور كان أمراً عظيماً منحه هذا الاستثناء فهو من منح ألمانيا سيادة الكرة العالمية عندما فاز معها بلقب كأس العالم لاعباً ومدرباً ومنحها شرف استضافته منظماً.
صانع أمجاد البافاري
ولد فرانز أنطون بيكنباور في الحادي عشر من شهر سبتمبر عام 1945 في مقاطعة ميونخ الألمانية، لم يمكن من عائلة ذات صيت رياضي كبير، فعمّه ألفونسو بيكنباور كان لاعباً في بايرن ميونخ لكنه لم ينل شهرة واسعة كتلك التي نالها القيصر فرانز.
ومن الغرائب التي يتصف بها بيكنباور، حبّه وشغفه لممارسة رياضة الغولف وقد يضاهي ذلك عشقه لممارسة كرة القدم، كما أنه منذ عام 1982 اعتمد النمسا التي تتحدث الألمانية أيضاً كمكان لإقامته الدائمة، فتنقل بين مدنها إلى أن استقر في مدينة سالزبورغ الحدودية مع ألمانيا في شهر أبريل عام 2006، ويرجّح المحللون استقراره في النمسا لخشيته من الضرائب الكبيرة التي تلاحقه في ألمانيا عقب كل عمل أو إعلان تجاري يقوم به.
في التاسعة من عمره بدأ فرانز ممارسة كرة القدم مع نادي إس سي ميونخ 06، موهبته كانت واضحة وتجذب الأنظار لذلك لم يكن انتقاله بعد أربع سنوات فقط للعب في صفوف بايرن ميونخ النادي الأشهر والأعرق في ألمانيا مستغرباً.
شارك في فئة الشباب ولم يتجاوز عمره 14 عاماً، ولعب مباراته الرسمية الأولى مع البافاري في دوري المناطق الجنوبية في أواسط الستينات، أمام فريق سانت باولي، كان يلعب في مركز الجناح الأيسر وهو ما لم يعتده، رغم ذلك كان متميزاً وحقق مع زملائه لقب البوندسليغا الأول ولم يكن حينها قد بلغ العشرين من العمر.
شارة الكابتن التي يضعها بيكنباور تجعله ينتقل للعب في مركز ليبرو الدفاع، لتظهر شخصية القائد الحقيقية في الربط ما بين الخطوط والتحكم بإيقاع اللعب، كان يسير على أرض الملعب دون توقف ويحرك الكرات في الميدان وينقلها بين اللاعبين كما يشير المايسترو بيده إلى فرقته الموسيقية ليحدد لكل عازف دوره
استمر تألق بيكنباور مع البافاري في المواسم التالية فحقق لقب كأس ألمانيا للموسم 1966-1967 وكأس الكؤوس الأوروبية البطولة الأقوى في القارة العجوز موسم 1968-1969، وأكد ثقله في الفريق عندما قاده للفوز بلقب البوندسليغا في الموسم ذاته.
كل ما سبق كان بداية وليس أكثر، بعد أن تسلم القيصر شارة الكابتن انتقل للعب في مركز ليبرو الدفاع، هنا ظهرت شخصية القائد الحقيقية في الربط ما بين الخطوط والتحكم بإيقاع اللعب، كان يسير على أرض الملعب دون توقف ويحرك الكرات على أرض الميدان وينقلها بين اللاعبين كما يشير المايسترو بيده إلى فرقته الموسيقية ليحدد لكل عازف دوره، لذلك أطلق عليه البعض لقب المايسترو ولذوقه الراقي في اللعب، تألق فرانز جعل من دفاع البايرن صخرة لا تحطم وأصبح البايرن من أقوى الأندية الألمانية بل والأوروبية أيضاً، حقق القيصر مع البافاري كأس أنتركونتيننتال ودوري أبطال أوروبا ثلاث مرات وفاز بأربع ألقاب بوندسليغا ومثلها في كأس ألمانيا وحصل على الكرة الذهبية مرتين، سجل ستين هدفاً خلال 427 مباراةً ظهر بها بقميص البافاري.
وصل بيكنباور إلى مرحلة الإشباع بعد أن حصد كل ما يتمناه من الألقاب في القارة العجوز، أراد أن يسجل أمجاداً تعبر المحيطات ولم يتردد لحظة في الموافقة على عرض نادي نيويورك كوزموس الأميركي، وأثبت أنه لاعب يصنع الفارق أينما حلت قدماه حين قاد ناديه إلى الفوز بلقب الدوري الأميركي ثلاث مرات، إلا أن الحنين قاده مرة أخرى إلى البوندسليغا من بوابة نادي هامبورغ ولعب في صفوفه موسمين.
عاد مجدداً إلى كوزموس الأميركي وأنهى مسيرته الكروية هناك، وقاد البافاري من جديد لكن هذه المرة خارج المستطيل الأخضر على دكة التدريب حيث دربه في فترات متقطعة منتصف التسعينات وكان قبلها مدرباً لنادي مرسيليا في بداية التسعينات وقاده للقب الدوري الفرنسي لكرة القدم.
|
قهر كرويف وقضى على الكرة الشاملة
ظهر القيصر أول مرة في مباراة دولية مع المانشافت في السادس والعشرين من سبتمبر عام 1965، ولعب مباراته الأولى في كأس العالم عام 1966 وسجل هدفين أمام سويسرا في المباراة التي انتهت لصالح الألمان بخماسية نظيفة، لقد أبهر الجميع وقتها، بقوة شخصيته في الملعب على الرغم من قلّة خبرته، لعب دوراً أساسياً في تأهل المانشافت إلى النهائي الشهير في ويمبلي أمام المنتخب الإنكليزي في المباراة التي خسرها الألمان بأربعة أهداف لهدفين، كان ذلك اختباراً حقيقياً لفرانز الذي علّق حينها بالقول “أن تكون وصيفاً لكأس العالم ليس بالأمر السيْء للاعب شاب”.
في المكسيك كانت خيبة الأمل، عندما توقفت الماكينات عن العمل أمام إيطاليا في نصف النهائي ولعب بيكنباور بكتف مخلوعة ملفوفة بالضماد، يومها جعل الجميع ينسى آلام الخسارة والتفتوا لآلام فرانز التي تحملها ليحمل حلم الألمان رغم أن الضماد لم يكن يجعله قادراً على حمل ذراعه.
كبرت أحلام الألمان ونضج بيكنباور، بعد أن قاد منتخب بلاده للظفر بلقب كأس الأمم الأوروبية عام 1972، وأطلق فرانز وزملاؤه وعوداً أن كأس العالم التي ستكون بعد عامين على أرضهم أي عام 1974 لن تغادرها مهما كلّف الثمن، وكان الجميع ينظر إلى أن تلك الأحلام لن تقف بوجه الكرة الشاملة الهولندية بقيادة المتألق يوهان كرويف في النهائي الذي جمع الماكينات بالطواحين الهوائية.
فرانز حصّن دفاعات الألمان وكان ينتقل بين فترة وأخرى إلى المقدمة ليمد سيب ماير وجيرد مولر بالكرات وكانت الثقة كبيرة لديه، لقد مزّق الكرة الشاملة وقطع الخطوط بينها ولم تعد الكرة قادرةً على البقاء بين أقدام لاعبي المنتخب الهولندي لأن القائد فرانز لم يكن يعطيهم فرصة للتفكير، الشفقة بدت واضحة على حال يوهان كرويف ورفاقه بعد أن انتهت المباراة لصالح الألمان بهدفين لهدف.
قميص المانشافت يسجل لبيكنباور ظهوره مرتديا له 103 مرات ليكون أول لاعب ألماني يحطم حاجز المئة مباراة دولية، مسجلا باسمه إنجازا فريدا من نوعه كأول مدرب يفوز بلقب كأس العالم لاعبا ومدربا بعد أن قاد المنتخب الألماني للفوز بكأس العالم عام 1990 على حساب الأرجنتين
غلطة القيصر بمليون
أصبح فرانز شخصية مشهورة وذات ثقل في الشارع الألماني، وما يقوله أو ما يرى أنه صائب بات كلاماً غير قابل للنقاش، مُنح الثقة المطلقة حتى وصل البعض بالقول “لو ترشح بيكنباور لمنصب مستشار ألمانيا لما تمكّن أحد من منافسته على ذلك”، لذلك يحاول الفنانون الألمان تقليده كالممثل الكوميدي ماتسه كنوب الذي يجيد تصنع حركاته بدقة.
بات علامة إعلانية تجارية لشركات التسويق على الأطعمة والأسطوانات الموسيقية، وتعمل شركات الهواتف المحمولة على جذب زبائنها بإعلانات القيصر، وقد صنعت له مجسمات تباع في الأسواق كألعاب للأطفال وأدوات لتزيين المكاتب، ونال أكثر من خمسين جائزة رياضية كما وضعت صورته على أحد الطوابع البريدية عام 2006 وشغل منصب نائب رئيس الاتحاد الألماني لكرة القدم في الفترة من عام 1998 وحتى عام 2010.
كل المناصب السابقة التي تقلدها القيصر كانت ممهداً ليتسلم المنصب الأكثر حساسية “رئيس اللجنة المنظمة لمونديال ألمانيا 2006”، حيث وقع القيصر في الفخ، وكأنه انقلاب عسكري أطاح برأس الهرم الرياضي، كانت هذه المرة ليست كسابقاتها، فتصويته لروسيا والذي تلاه بعد ذلك توقيع عقد مع شركة روسية منتجة للغاز، قد مرا بسلام رغم قرار الفيفا الذي أوقف بيكنباور عن ممارسة أيّ نشاط لمدة 90 يوما.
|
الصفعة هذا المرة كانت أشد قوة، جعلت القيصر يصمت وهو ما لم يكن مألوفاً، فقد اعتاد الألمان على سماع صوت فرانز في كل مناسبة وتوجيه الأسئلة له، وهو يجيب برحابة صدر في كل مكان وزمان، إلى أن أجاب القيصر أخيراً على أسئلة أحد الصحفيين تعقيباً على ما نشرته صحيفة ألمانية “لماذا تسألونني كل مرة؟ لتسألوا غيري” كان دليلاً على أن ما نشرته صحيفة دير شبيغل بتورطه في دفع رشاوى للفيفا مقابل حصول ألمانيا على حق استضافة مونديال 2006 لم يكن مجرّد اتهام، قيل إن غلطة الشاطر بألف لكن كانت غلطة القيصر بمليون.
اعترافات
دارمانين رئيس الاتحاد المالطي لكرة القدم اعترف في لقاء صحفي بعقد سري وقع عام 2000، تحصل بموجبه مالطا على 250 ألف دولار لصالح المنتخب الوطني من أجل خوض مباراة ودية أمام بايرن ميونخ، كان ذلك بين رئيس الاتحاد المالطي لكرة القدم وجوزيف ميفسود الذي صوّت لألمانيا عقبها، وعلق دارمانين على تلك الأموال “قالوا لي بأن 250 ألف دولار قد هبطت من السماء على الحساب البنكي للاتحاد”.
وفي الثالث من نوفمبر عام 2015، نفذت سلطات الضرائب الألمانية حملة تفتيشية لمقر الاتحاد الألماني لكرة القدم في فرانكفورت، بناء على ادعاءات بتشكيل صندوق رشاوى بقيمة 6.4 مليون يورو للحصول على أصوات تضمن استضافة ألمانيا لمونديال 2006، طالت المداهمات بيوت رئيس الاتحاد الألماني لكرة القدم نيرسباخ الذي كان نائباً لرئيس اللجنة المنظمة لكأس العالم 2006 وتسفان تسيغر الذي كان رئيساً لاتحاد الكرة عام 2006 وأميناً لصندوق اللجنة المنظمة.
لكن لم يجرؤ أحد على الاقتراب من القيصر رغم أنه المسؤول الأول في اللجنة المنظمة، القيصر كان قد برّر ذلك المبلغ بمنحة قدمها الاتحاد الألماني للفيفا لإقامة حفل في نهائيات كأس العالم، إلا أن الحفل لم يحدث على أرض الواقع، صمت طويلاً لكن الصمت لم يكن كافياً لإيقاف الضغوطات، قبل أن يخرج أخيراً عن صمته في بيان رسمي جاء فيه “للحصول على منحة الفيفا، قبلنا اقتراحاً من اللجنة المالية للاتحاد الدولي الأمر الذي كان على الأطراف المعنية رفضه، أقر بأنني أتحمل المسؤولية عن هذا الخطأ كرئيس للجنة المنظمة في ذلك الوقت، إلا أنني لم أدفع أموالاً تساعد ألمانيا على نيل حق استضافة كأس العالم 2006”.
سكت بعدها القيصر، وساد صمت طويل ما يزال يطبق على الألمان.