فراغات عتيدة في حياة الإنسان.. كيف يمكن ملؤها

الأوهام تجعل الحياة إيجابية وتؤجل المشكلات إلى يوم آخر وربما يكون بعيدا إذ تخلق نوعا من الهدنة التصالحية.
الأحد 2022/04/03
الوهم يرسم حدود العالم المغلق (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينسج الأوهام المنطقية ليحصن نفسه بها من مخاوف ظنونه الخارجية.

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تحيق به فكرة الداخل والخارج، داخله الذي لا يتحقق أمنه وأمانه إلا بوجود خارجي أكثر قوة وعنفا منه.

إنها فكرة الأضداد، التي قامت عليها عقيدة الخوف البشرية، منذ بداية وجود الإنسان، بسبب عدم تمكن عقله من الوصول إلى إجابات قاطعة على أسئلته، رغم أنها ليست أكثر من تهويم في الظلام (الأوهام أو افتراضاتها)، أو محاولة للنوم على وسادة محشوّة بالإسمنت، بحسب أحد تشبيهات الفيلسوف البريطاني كولن ولسن: وسادة صلبة وثابتة، رغم أنها لا تحقق النوم المريح، بل وتخلّف ألم العنق وصداع الرأس.

فكرة التضاد التقابلي هذه (عالم الظلام والنور، الضلال والإيمان، المقدس والمنحط، الخير والشر..)، وبتراكم الزمن وعوامل الخوف والرعب، هي التي قادت إلى تأسيس عقائد المقابر الثمينة، ومن بعدها المقابر المقدسة، وهي بالتالي المسؤولة عن تراكم وتعاظم تهويمات القلق (الأوهام) والميل إلى تقديسها، وخاصة في ظل تأخر الجهد الفلسفي في إيجاد الأجوبة المقنعة التي تضع الحدّ لقلق الإنسان ومخاوفه.

إن التجمعات الاجتماعية، ومن أجل إضفاء الأهمية والشرعية على قوالبها الأولى، هي المسؤول الأول عن تراكمات الأوهام وتكديسها عبر الزمن وفقا لرؤية واتجاهات تطورها السلطوي، وفي ما بعد، التعقيدي – الطقسي.

وبتتبع التأريخ البشري، ومنذ عصر كهوف الحياة البدائية، لم تخل مرحلة بشرية وحضارية من الأوهام؛ والغريب أن هذه الأوهام لم ترافق التطور الحضاري للإنسان، بمعنى أنها ظلت تتبع نفس قوالبها البدائية، وخاصة في ما يتعلق بالمعتقدات اللاهوتية – المعبدية والميتافيزيقية، التي حافظت على ذات التصورات الترهيبية والطقسية السلطوية، والتي حرص رجال الكهنوت والروحانيون على رفعها إلى مستوى القداسة، من أجل أن تبسط هيمنتها (وبالتالي هيمنتهم) على عقول أتباعهم وقلوبهم.

اختراع الأوهام حالة مؤقتة أو مرحلية بذاتها، لأن الإنسان يبحث ويواصل البحث عمّا يحتاجه ويدرك وجوده وإمكانية تحققه، وهو اكتماله بذاته، أي حالة الكمال التي ينزع إليها فطريا

ما يهمنا هنا هو البحث عن الروابط التي تكشف مسؤولية (تلكؤ أو خذلان) الفلسفة عن تكريس الأوهام أو تحويلها إلى معتقدات روحانية أو دينية، وأظن أن الشاعر وليم بليك هو من قال “إن من لا يستطيع أن يسند الحقيقة يكون مضطرا إلى إسناد الكذب”، لكي لا تنتهي الحياة وما فيها من حيوية؛ والسؤال الأكثر ضرورة وإلحاحا هنا هو: لماذا لا يستطيع أغلب البشر أن يسندوا الحقيقة فيعكفون على إسناد الكذب، ويكرسونه باختراع الأوهام؟ وبصيغة ثانية، لماذا أو ما الذي يحتم على من لا يستطيعون إسناد الحقيقة، الانقلاب إلى ضدها، أي إسناد الكذب؟ هل حقا إسناد الكذب يحمي الحياة من أن تنتهي مع ما فيها من حيوية؟

ولنترك الآن النظر في جدلية هذه السببية، ولنقدم عليها الفكرة الأكثر قربا من موضوعة الأوهام التي نبحث، فنتبع خطوات الاستنتاج التي -ووفق طرح بليك- تؤكد أن من لا يستطيع إسناد الحقيقة، ينقلب إلى ضد لها، يسند الكذب ويخترع الأوهام ويسوّقها كحقائق بديلة للحقيقة، وهذا الصنف من البشر هو الكثرة، والغريب أن هذه الكثرة تكون مزودة بأدوات فخمة في اختراع الأوهام وإسناد الكذب وتسويقهما، كبديل، سرعان ما يتحول إلى مقدس اعتباري مرهوب، ويتغلغل ليبسط نفوذه كقاعدة أخلاقية أو روحية أو دينية.

لا خلاف على أن الأوهام (الملونة) تجعل الحياة إيجابية وتؤجل المشكلات إلى يوم آخر، وربما يكون بعيدا، والأهم أنها تخلق نوعا من الهدنة التصالحية مع الجسد وحواسه وتطلق له العنان ليعبر عن نفسه بهدوء، وهذا ما تبحث عنه الغالبية العظمى من الناس، ممن يرغبون في العيش في قفص الحياة الاجتماعية، دون أن يعنيهم أسن أرضيته وإنه بلا سقف يرونه ويحميهم، لأنهم يتعاملون مع الحياة من منطلق رؤية هيغل “الله في السماء، وكل شيء حسن في العالم”.

 ثم يأتي المرض أو الموت ليريهم حجم الهوة التي يقفون على حافتها، وأنهم بلا أي مساعدة، وأن العالم أو الحياة في حال بمنتهى السوء، في صيغته الحالية، وأنه في حاجة إلى الكثير من التحسينات ليليق بالإنسان، الذي لطالما شعر بالغبن، بسبب عيشه على الأوهام المصطنعة بدل الحياة التي يستحق، وهذا يعني أن الإنسان يلجأ إلى اختراع الأوهام واصطناعها، مرغما وتصبرا، في انتظار اليوم الذي يصل فيه إلى العيش في الحياة الحقيقية.

ولكن من يحجب عنه الحياة الحقيقية وكيف؟ إنه نقص شكل الحياة، التي بين أيدينا، أو عدم تمامها.. الحياة منقوصة، أو لم تكتمل كينونتها في النشأة الأولى لها، ومن هنا تأتي معاناة الإنسان، وأتت وتراكمت أسباب ضعفه.

إن ما بين أيدينا هو جزء من الحياة، وهذا لا يعني أن الطبيعة قد تقصدت هذا ليكمل الإنسان شكل الحياة؛ وأيضا ليس لأن ما اجتزئ منها أو أنقص، ادّخر له لتعويضه به في عالم آخر أو حياة ثانية (بعد أدائه لامتحان صلاحه وتطهره)، بل إن هذا الوضع الشاذ جاء نتيجة نقص في التكوين الطبيعي لأصل الحياة، كوجود المعادن في باطن الأرض بصورة مختلطة، بالشوائب والأتربة، وتكون في حاجة إلى التخليص والتنقية، مثلا، أو كحاجة الصخور والتراب إلى التنقية والتعريض للمعالجات الحرارية، لتتحول إلى مواد تصلح للبناء.

إن التجمعات الاجتماعية، ومن أجل إضفاء الأهمية والشرعية على قوالبها الأولى، هي المسؤول الأول عن تراكمات الأوهام وتكديسها عبر الزمن وفقا لرؤية واتجاهات تطورها السلطوي، وفي ما بعد، التعقيدي – الطقسي

ثمة فراغات، فراغات عتيدة في هذا التكوين الذي نعيشه كحياة، فراغات تبدو مزمنة، ولكن ولنستمر أو لكيلا ننتهي إلى هزيمة سريعة أو انتحار مبكر، نلجأ لسد هذه الفراغات بأوهام، أوهام تبدو ضرورية، ولكنها قاسية، ولهذا ظهرت الفلسفة، أولا لتقول إن هذه أوهام لا يعوّل على سدّ الفراغات بها، وثانيا لتبحث عن حلول أصيلة لمشكلات تلك الفراغات.

 يعني هذا أن اختراع الأوهام حالة مؤقتة أو مرحلية بذاتها، لأن الإنسان يبحث ويواصل البحث عمّا يحتاجه ويدرك وجوده وإمكانية تحققه، وهو اكتماله بذاته، أي حالة الكمال التي ينزع إليها فطريا، وهذا يعني، بطريقة غير مباشرة، أن لحظة الكمال المنشودة موجودة وممكنة التحقيق وليست وهما أو هوسا بالذات، اخترعها الإنسان تشبّها بالآلهة، أو دفعا لشعوره بالتعاسة والبؤس المزمنين.. أو وبتعبير هولمه “الإنسان يشعر بالكمال مقابل معاناته من البؤس”، وهذا ما يؤكد أن كماله أمر منظور وواقعي ولا يأتي من فراغ.

علينا أن نؤكد في هذه المرحلة على قضيتين مهمتين في داخل الفلسفة وأولهما، أن جهد الفلسفة يجب أن ينصبّ على التعامل المباشر مع مشكلات الإنسان “بوضعها تحت مجهر الفحص” بحسب تعبير كولن ولسن، وثانيهما، علينا الآن، وفي هذه المرحلة من عمر زمننا، الخروج بالفلسفة من زقاق التجريد المعتم الذي زجت فيه، (الفلسفة التجريدية، فلسفة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي أوروبية الهوية) جميع مشكلات الإنسان لتزيدها تعتيما وتشطيرا اصطلاحيا، بدل الوصول بها إلى حلول، أو محاولات احتواء، تحت سقف واحد واضح اللون، على أقل تقدير.

 وهذا ما أدى بالكثير ممن امتهنوا الفلسفة، ككراس أكاديمية، إلى اختراع وإثقال تصورات الإنسان ومشكلاته والفلسفة ذاتها أيضا، بأوهام مضافة وأكثر تعقيدا ومضاضة من الأوهام الأولى، التي كنا ننتظر تحطيمها بجهد الفلسفة بأنساقها الأولى، الأقل تجريدية، لا إثقالها بتفرعات وأزقة مظلمة لا تؤدي إلى شيء واضح، بل وحتى لا تسمح بالهروب إلى جهة، إذا ما افترضنا أن الحياة هروب بطريقة من الطرق.

ولكي نركز الأمر أو صورته في الجانب الأشد وضوحا، في قضية هروب الإنسان إلى ما يسد شعوره بالضياع واللاهدفية في البحث عن مخرج من أزمته، واضطراره للبحث عن بدائل في الأوهام (الكبيرة أو الأوهام الجبلية، شديدة الوعورة وليست شديدة الصلابة والثبات)، نجد الأمر يتركز في الجانبين الأشد إلحاحا، وهما جانب حريته في الاختيار والفعل، والآخر قضية موته (تلف كينونته وتبددها وتبخرها من بين يديه، كذات وفرد، وليس كروح، كما تسوِّق الأوهام وتصر بقسوة) ووقوفه عاجزا أمام هذا الوضع الناشز، العصي على الفهم، والذي لا يجده مبررا، أمام سلطة ورغبة الحياة اللتين تحكمانه بالفطرة، وليس بصورة عارضة، كما يصور رجال الكهنوت ورؤاهم المعبدية.

 وهذه القضية هي التي يجب أن تكون الأهم والأكثر إشغالا لتفكير الفلاسفة وبحثهم، من التفريعات التجريدية التي هربت إليها الفلسفة الغربية، في القرن العشرين، وخاصة في ربعه الأخير، والتي لم تقدم شيئا غير مجموعة من التصورات الجانبية لأشكال العلاقات بين مجموعة من الافتراضات الصالونية والتسكعية، في أزقة الفلسفة الخارجية، في حين ظلت حرية الإنسان واختياراته في تآكل مستمر، أمام نهم السلطات واستحواذيتها، وكذلك ظل الموت، بوجهه الحجري الأعمى، متسلطا وقامعا لأي رفعة رأس للإنسان عن الأرض، ليمسح غبار الضياع والعجز عن جبينه.

ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

10