فراغات أمنية متعمدة في غرب أفريقيا تعيد الاعتبار إلى الدور الفرنسي

الانسحاب الفرنسي من مالي لم يكن مجرد رد فعل غير مدروس على خلافات بين باريس والمجلس العسكري في البلاد بسبب التعامل مع مرتزقة فاغنر الروس، بل يهدف إلى إظهار أهمية الدور الفرنسي في محاربة الإرهاب في غرب أفريقيا، وهو الأمر الذي تعجز فاغنر عن تحقيقه.
تشير العمليات الإرهابية التي شهدتها مالي مؤخرا إلى عجز القوات الفرنسية التي عانت مما تصاب به كل القوى الأجنبية، عندما تمكث قواتها فترات طويلة في مناطق بعيدة، لتحقيق أهداف بدت مثالية في واقع أفريقي بائس.
لكن أيضا هذه الحالة تشير إلى فراغ أمني متعمد تركه الانسحاب التكتيكي الفرنسي، وملامح قوية لانتقال الحرب الباردة بكل معاييرها وتداعياتها إلى ساحات التنافس الأفريقية بين روسيا وبعض الدول الغربية.
تعمل روسيا كل ما في وسعها كي تملأ أي فراغ أمني تتركه فرنسا أو غيرها من القوى الغربية في أفريقيا، وفي المقابل لا ترغب باريس في أن تصبح مالي، وهي من مستعمراتها السابقة وساحة تقليدية من ساحات نفوذها، غنيمة سهلة المنال كما حدث من قبل في جمهورية أفريقيا الوسطى، فقد أشارت تقديرات إلى تعمد فرنسا ترك فراغ أمني في مناطق تحتلها جماعات إرهابية لتكريس نفوذها، ما يزيد الضغط على السلطات الانتقالية في باماكو بعد تفضيلها التعاون مع روسيا على حساب النفوذ الفرنسي المعروف هناك.
تهديدات وتحديات
قُتل وأُصيب مطلع مارس الجاري العشرات من عناصر الجيش المالي في هجوم إرهابي استهدف معسكر موندورو وسط البلاد، في أكبر هجوم إرهابي منذ شهور، فضلا عن مقتل جنديين في هجوم إرهابي منفصل بمنطقة غاو شمال البلاد، كما قتل جنديان مصريان عندما تعرضت قافلة لوجستية تابعة لبعثة الأمم المتحدة لهجوم بعبوة ناسفة، وهو ما لفت النظر إلى مغزى توقيت تكثيف الهجمات المتزامن مع بدء سحب فرنسا وشركائها الأوروبيين قواتهم من البلاد.
من الزاوية الأمنية فقد انعدم وجود القوات الفرنسية بمناطق وقوع هذه الهجمات لعدم طلب الجيش المالي الدعم من قبل قوة برخان أو للانسحاب الفرنسي الفعلي منها، وهو ما أعقبه انتشار عناصر من شركة فاغنر الروسية الأمنية الخاصة، وهذه الأخيرة تفتقر وفقا لقراءات عسكريين غربيين إلى قيادة فاعلة وقدرات استخباراتية واستطلاعية تناسب حجم ومستوى التحديات والتهديدات على الأرض.
الجهاديون استغلوا التنافس الروسي الغربي الناشئ في مالي أكثر من استغلالهم السابق للفراغات الأمنية التي أعقبت الانسحابات الفرنسية
وفي حين يعتقد عسكريون مهيمنون على السلطة في مالي أن التنسيق، والتعاون مع الشركة الروسية “فاغنر”، يعوض سريعا الوجود الفرنسي، فإن جزءا كبيرا من هذا التصور لا تدعمه وقائع، ويتعلق فقط بحسابات سياسية ضيقة ومكايدات متبادلة في ضوء التوتر بين باريس والسلطة الانتقالية العسكرية في باماكو.
وعلى الرغم من بدء الانسحاب الفرنسي والدولي، فإن باريس لا تزال تمثل قوة مهيمنة، حيث تسيطر على نقاط الدعم اللوجستي، مثل قاعدة نيامي الجوية والقاعدة الجوية البرية في نجامينا وقاعدة جاو، وهو مستوى جيد من الحضور يسهم في كبح تمدد وتطور أداء الجماعات الإرهابية،
وإن لم ينجح في إلحاق هزيمة شاملة بها.
لم تتمكن فرنسا بالفعل، رغم تمددها عبر عملية برخان إلى كل من موريتانيا والنيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو وبالاعتماد على عتاد عسكري متقدم وقرابة الخمسة آلاف جندي، من صنع الفارق على الأرض في مواجهة الجماعات الإرهابية التي تسيطر على أجزاء واسعة داخل معظم هذه الدول، إلا أن وجودها وتمركزها النوعي بحد ذاته كان يضع خطوطا حمراء أمام إرهابيين حرصوا على عدم تجاوزها، وعملوا حساب مستوى الانتشار والدعم اللوجستي الفرنسي ليس في مالي وحدها، بل على امتداد دول الساحل الأفريقي الخمس.
تنافس استغله الإرهابيون
استغل الجهاديون هذه المرة التنافس الروسي الغربي الناشئ في مالي أكثر من استغلالهم السابق للفراغات الأمنية التي أعقبت الانسحابات الفرنسية التكتيكية، ما تماهى مع الرغبة الغربية في إثبات عدم مقدرة عناصر فاغنر على الحفاظ على نفس المستوى من الردع الأمني في مواجهة المتطرفين.
يدعم الواقع العملياتي هذا التصور، حيث يصعب على مجموعة مرتزقة، لا يتجاوز عددهم الأربعمئة، فرض الأمن في مساحة تتجاوز 900 ألف كيلو متر مربع، ولا يملكون البنى العسكرية التحتية أو التموقع النوعي والدعم اللازم لإجراء العمليات المخطط لها داخل مسرح عمليات متسع في مالي ودول الساحل الغربي لأفريقيا.
لذلك روجت بعض التقارير الغربية لفرضية مفادها أن السلطات العسكرية المهيمنة على السلطة في مالي زيفت الحقائق عبر تصوير التعاون مع فاغنر كونه تعويضا، بعد تخلي باريس
عنها في ذروة معركتها مع الجماعات الإرهابية، بينما يعلم المراقبون القريبون من الأحداث أن هدف التعاقد مع المرتزقة هو فقط حماية النظام والقادة العسكريين في مالي، وغالبية هؤلاء المرتزقة من جنسيات سورية وليبية والقليل منهم ينتمون إلى روسيا ويميلون أكثر إلى تأمين موارد مالية، ولا تعد مكافحة التنظيمات الإرهابية والأبعاد الأمنية الأخرى ضمن أولوياتهم.
أثارت التطورات في مالي غضب فرنسا التي لم تخطط لتصل الأوضاع إلى هذا الحد، إذ أعلنت السلطات في مالي بزعامة عاصيمي غويتا، والذي تعززت هيمنته بعد الانقلاب العسكري الثاني الذي قاده في مايو 2021، فض الشراكة الأمنية والتحالف السياسي مع فرنسا، كاشفة عن مواقف أكثر عدائية تجاه الوجود الفرنسي في مالي، ومستبدلة النفوذ الأوروبي التقليدي والتاريخي بآخر روسي.
على الرغم من بدء الانسحاب الفرنسي، فإن باريس لا تزال تمثل قوة مهيمنة، حيث تسيطر على نقاط الدعم اللوجستي مثل قاعدة نيامي الجوية والقاعدة الجوية البرية في نجامينا وقاعدة جاو
تصورت باريس أن تدبيرها انسحابات عسكرية جزئية وتكتيكية لا يعني مغادرة مالي بشكل كامل، لكن ما جعل باماكو تصعّد من ناحيتها هو ضغط باريس بورقة الحضور العسكري، لدفع السلطات الانتقالية إلى إجراء الانتخابات وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية في أقرب فرصة، ما جعل المجلس العسكري الحاكم لا يتوقف عند محاولات إرغام فرنسا بخلق رأي عام مناهض لها على سحب قواتها بالكامل، ووصل الأمر ذروته بطرد السفير الفرنسي جويل ميير من باماكو مطلع فبراير الماضي.
رغم تقليص فرنسا عناصر عملية برخان إلى النصف والشروع في الانسحاب من مدن رئيسية في شمال مالي، إلا أنها لم ترغب في فض التحالف والشراكة، فضلا عن عقد القادة العسكريين صفقة تعاون مع فاغنر الروسية، وهو ما لم يحدث منذ الإطاحة بالرئيس السابق أبوبكر غيتا قبل عامين.
أثار هذا التصرف غضب فرنسا ودفع إلى تبني موقف موحد من قبل بعض العواصم الأوروبية وواشنطن مع باريس، بجانب الكتلة الأفريقية لمعاقبة باماكو اقتصاديا، وهو ما أعاقته روسيا بدعم من الصين، فقد أفشلتا صدور قرار من مجلس الأمن ضد السلطة العسكرية في مالي، التي سعت على غير رغبة باريس لإطالة الفترة الانتقالية لخمس سنوات أخرى.
أصبح الوضع أكثر تعقيدا بشأن ملف مكافحة الإرهاب في مالي ودول الساحل في غرب أفريقيا، عقب دخول روسيا في ساحة الصراع على النفوذ، بعد الخسائر الهائلة التي تكبدها الغرب في الشرق الأوسط وأفغانستان، ولا يقتصر الأمر على مالي، حيث تشهد العديد من الدول الأفريقية تحولا نحو روسيا خشية الخذلان الغربي المحتمل، كما في كل من موزمبيق وإثيوبيا.
يتمدد النفوذ الروسي متخذا من شركة فاغنر الأمنية الخاصة رأس حربة لتأمين مصالح موسكو، من الشمال الأفريقي في ليبيا إلى غرب القارة في مالي إلى جمهورية أفريقيا الوسطى في قلب القارة.
تكتيك مزدوج

لا يترك الانسحاب الفرنسي من مالي والنيجر وغيرهما مع تراجع الدور الأميركي فقط فراغا أمنيا، تتوسع من خلاله مختلف الجماعات الإرهابية وتمدد نفوذها وحضورها، إنما يؤسس لمرحلة غائمة على وقع التنافس الغربي - الروسي، بالنظر إلى تعارض المصالح والحرص المتبادل على إظهار الآخر أنه غير قادر على مكافحة الإرهاب في أفريقيا.
يقود هذا التنافس على النفوذ بين فرنسا وروسيا في مالي على وجه التحديد إلى خلق انتعاشة للجماعات الإرهابية، في ظل وجود رغبة قوية من قبل باريس في إثبات أن غيابها عن ساحة مهمة لها يصعب تعويضه بروسيا.
يؤكد تصاعد الهجمات الإرهابية في مالي مؤخرا وجهة نظر باريس، التي أثبتت عبر تصرفين يبدو كلاهما في الظاهر متناقضا مع الآخر، أهمية دورها في منطقة الساحل لحفظ الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب، بهدف إبعاد لاعب كبير مثل موسكو من إحدى الدول الأفريقية الخاضعة لنفوذها التاريخي، والتقليل من دور مجموعة فاغنر كأداة في يد روسيا.
رغم تقليص فرنسا عناصر عملية برخان إلى النصف والشروع في الانسحاب من مدن رئيسية في شمال مالي، إلا أنها لم ترغب في فض التحالف والشراكة
زاوجت فرنسا بين انسحابها من مدن رئيسية ومهمة في مالي ما أغرى الجماعات المسلحة بالتقدم والتمدد وتنفيذ عمليات نوعية، وبين تكتيك إيجابي معاكس يتعلق بتنفيذ بعض عمليات الاغتيال النوعية لقادة الجماعات الإرهابية بالمنطقة، وهو ما حدث بإعلان الجيش الفرنسي نهاية فبراير الماضي تصفيته ليحيى جوادي، أو أبوعمار الجزائري وهو أبرز قادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
ينطوي التكتيك المزدوج الذي بدا في الظاهر متناقضا على قلق فرنسي كبير من النفوذ الروسي المتزايد في أفريقيا، وما يعنيه من مزايا مالية واستثمارية هائلة لموسكو، وهو ما دفع فرنسا إلى عمل الشيء ونقيضه لتثبت أنه لا يمكن الاستغناء عنها، فضلا عن استبدال نفوذها بآخر منافس في إحدى مستعمراتها السابقة، فضاعفت من مستويات ومساحات انسحابها في الوقت الذي أعلنت فيه اغتيالها لأحد رؤوس الإرهاب، مثبتة فائدة قواتها وعجز المنافسين عن تعويض دورها، فهي الخبيرة بدهاليز هؤلاء.
يقول مراقبون إن هناك صعوبة تواجه موسكو من خلال تحركات فاغنر كي تنجح في ملء الفراغ الأمني داخل مالي، عقب انسحاب القوات الفرنسية، ومن منطلق الزعم بأن موسكو ليس لديها ماض استعماري مثل فرنسا، وبالتالي ستكون الحساسية الشعبية تجاهها أقل، لكن تاريخ تلك الشركات الأمنية الخاصة والمرتزقة عموما يرتبط بسمعة سيئة، نتيجة الانتهاكات التي ترتكب بشأن سيادة الدول وضد السكان المدنيين.
تظل فرص التنظيمات الإرهابية في استقطاب المزيد من العناصر إلى صفوفها قائمة، وربما تتضاعف مع امتلاك مساحة أكبر من التعاون والتنسيق بين بعضها البعض وتوسيع رقعة تمددها بحجة مواجهة العناصر الأجنبية، علاوة على أن الانسحاب الفرنسي والدولي سوف يزيدها ثقة وقوة ويغريها بالسعي نحو السيطرة على مدن كبيرة، مثل تمبوكتو.