فتنة خرساء

الأربعاء 2017/08/16

الصمت إزاء الأعمال الأدبية والفنية ليس دليل لامبالاة أو كراهية دائما، الصمت ينوب أحيانا عن مشاعر قاتمة تضمر فتنة لاعجة، لا يستوعبها الكلام، وتصعق طاقة الاعتراف، فتتبخر المفردات والتعابير المحايدة أمام نوازع الغيرة وشهوة الانطفاء السريع. الصمت تجاه الأعمال العظيمة يليق به وصف الخرس، لهذا لا يمكن أن نأخذ مأخذ الجد تلك المقدمات الملفقة التي قد يكتبها روائيون ونقاد وباحثون وشعراء متحققون لأعمال مبتدئين إلا بوصفها ترضية خواطر، وتكرما من الأستاذ على التلميذ بما يوطئ له موضعا في أرض الكتابة المحفوفة بالأشواك.

من هنا أعتقد أنه من الواجب أن نحتاط من تلك التقديمات العاطفية التي قد يجامل بها بعض الكتاب زملاءهم للحفاظ على وشائج الود والصداقة وتحصين الانتماء إلى مصاف الكبار. فلم أصدق يوما تلك العبارات المنمقة التي كتبها أدونيس في تقديم كتاب “صور الماضي” لهشام شرابي، حين تحدث عن شهوته العارمة لأن يكون صاحب تلك السيرة، تمثلت الأمر باعتباره تزيدا بلاغيا من قبل كاتب شهير في حق تجربة أدبية لرفيق عقيدة ومسار.

الصمت وحده عزيزي القارئ أصدق إنباء من الكتب، لهذا لم يكن بيكاسو منافقا حين اختار أن يتحدث بعبارات مقتضبة وملتبسة وغير راسخة المعنى، حين كانت تضطره الظروف للتعليق على أعمال معاصره وصديقه الرسام الإيطالي أميديو موديلياني، كان إعجابه الشديد بلوحاته الذي أسر به لأقرب خليلاته وأصدقائه يمنعه من التعبير علنا عن عاطفته تلك لما في ذلك من إزراء بأسطورته الشخصية، كان صمته دليلا على تضاؤل أعماله أحيانا أمام الإشراقات العبقرية لموديلياني، ولأن الموت هو كاشف العقائد الدفينة فإن موديلياني بات هوس بيكاسو في أيامه الأخيرة.

استحضرت كل هذه الأفكار لتبديد لبس بدأ يستشري في وسط القراء تجاه الصمت عن الأعمال الفنية والأدبية، الذي لا يمكن أن يفسر، في كل الأحوال، من حيث هو حكم على تلك الأعمال بالضعف وانعدام القيمة، والحق أنه يمكن اعتبار العكس هو الصحيح، حيث إن الصخب الإعلامي يرافق في الغالب الأعم أعمالا عادية، وأحيانا تلك التي يكون لأصحابها موقع أهم من إبداعهم ذاته، بالنسبة لمن يتحدث عنهم أو يعرف بكتاباتهم ويمجدهم في الصحف والملتقيات. أذكر في هذا السياق عشرات الندوات التي حضرتها عن أعمال أدبية وفنية وكان أصحابها يقترحون مساهمة أسماء متشابهة من المتحدثين، يكونون في أغلبهم طلبة للمحتفى به، بحيث يحل اللغط محل التحليل، والنفاق محل المكاشفة. يتخايل إلى ذهني حينئذ ذلك الصمت تجاه الأعمال الإبداعية بوصفه حكمة جليلة، وكبرياء رفيعا، لا مجرد خرس تجاه فتن عاتية.

كاتب مغربي

15