فتنة حرق القرآن وانحراف المفاهيم

ما الذي سيؤدي إلى هدم المُثل الإسلامية هل هي رواية ضعيفة البناء الروائي أم انحراف الناس عن المفاهيم الصحيحة وتوجههم إلى أفكار أكثر رجعية من الجاهلية.
الخميس 2023/07/06
العاطفة هي الوتر الذي يضرب عليه رعاة الفتن

إن في استيعاب المفاهيم ضرورة لا غنى عنها، فيُعطى عندها بيان واضح وتبيان صريح لجميع التصورات وما يترتب على ذلك من التصرف الأمثل في كافة الأحداث الحاصلة تبعاً لتنوع الأزمان واختلافها. فما حدث في العصر العباسي من فتنة خلق القرآن تختلف عن فتنة حرق القرآن التي تحدث في أوروبا في الوقت الحالي من حيث الغاية والتوجه والفكرة. إلا أنها قد لا تختلف في توجه الناس إذا انحرفت المفاهيم واختلط الحابل بالنابل وتوجه الناس بعواطفهم في مواجهة الفتنة لا بعقولهم.

ففتنة خلق القرآن هي من المسائل الكلامية التي أثيرت بشدة في أواخر القرن الثاني الهجري، حيث أمر المأمون العباسي باعتناق فكرة حدوث القرآن اتّباعاً لفرقة للمعتزلة التي رجحت أن القرآن مخلوق ومحدث فاعتبروا أن كلام الله هو صفة غير ذاتية فيه وأنه فعل حادث في الزمان وهكذا يكون مخلوقا ومحدثا، خلافاً للأشاعرة وأهل الحديث الذين ذهبوا إلى أن كلام الله قديم وصفة ذاتية فيه.

◙ ضبط المفردة هو أول التفكير السليم وتوجيه الخطاب الديني إلى ناحية ينعدم فيها التعصب وتوجه فيها المفاهيم إلى الصواب دون انحراف أو تضليل هي غاية الدين

سببت فكرة خلق القرآن فتنة كبيرة أريق فيها الكثير من دماء المسلمين من علماء ومفكرين وعامة الناس الذين خالفوا المعتزلة. إلا أن المأمون فرض هذا الرأي على جموع المسلمين في كافة الأقطار لدواعي سياسية فأسكتهم بالقتل والبطش. وعلى هذا النحو اعتبرت أكثر الفتن الدموية التي مرت على المسلمين. فما حصل كان نتيجة لعاطفة الناس آنذاك لدينهم وإيمانهم الذي أحسوا أنه يمس من خلال طرح فرقة المعتزلة هذهِ الفكرة وهذا التصور.

وبالعودة إلى الفتنة الحادثة من حرق القرآن والتي تكررت مثيلاتها في أوروبا في الآونة الأخيرة في بلدان مثل السويد وفرنسا والدنمارك، فلا أرى مقارنة بينها وبين فتنة خلق القرآن، فالأولى نظرية كلامية قائمة على أساس فكري وعقائدي فتناقش بالفكر وتبرهن بالأدلة. والثانية قائمة على أساس جهل وتخلف. وربما رد فعل لأمر ما. إلا أن في الأمرين قد تجتمع العاطفة في مواجهة ذلك لا العقل، فتشترك الفتنتان في إراقة الدماء.

ولا نستبعد أن في الأمرين قد تجتمع السياسة لتوجيه الفتنة إلى مسار خُلقت لأجله. وبعد أن انتشرت هذه المشاهد في الآونة الأخيرة تصدرت الأقاويل والأفعال التي لا تنم إلا عن سلوك المواجهة بالعاطفة لا بالعقل. وهذا السلوك دفاعي قد يؤدي إلى العنف. فحريّ بالجهات الرسمية أن تتخذ الإجراءات الدبلوماسية الصحيحة دون عاطفة مفرطة، وحريّ بالجهات الدينية أن تشجب وتندد عن هذا الفعل المسيء وتدافع عن الدين بالفكر والتعقل.

وحريّ بعامة الناس ألاّ ينساقوا لعواطفهم في ردود أفعالهم “فالضعيف انفعاله عنيف”، والقويّ لا يتأثر بسخائف الأمور، والأشخاص الموجهين والمدفوعين لمصالح جهات أو ربما لمصلحتهم الشخصية. الأمر الذي قد يكون صعباً للذين قد يعانون  من انحراف المفاهيم الدينية.

الإسلام فرق ومذاهب متعددة نشأت منها فجوات عبر التاريخ وهذهِ الفجوات أدت إلى ظهور مفهوم العنف الديني بدايةً من العنف الذي يُمارس بين فرق وجماعات المسلمين وصولاً إلى العنف الذي يمارس على المسيئين للإسلام. هذهِ الظاهرة يجب أن تدرس بمفهومها الصحيح فهي بشكل أو بآخر تعبّر عن توجه سياسي أكثر من كونه دينيا. فما الذي يدفع مرجعا دينيا كبيرا لإباحة قتل سلمان رشدي الكاتب البريطاني ذي الأصول الهندية صاحب رواية آيات شيطانية. والتي اعتبرها أكثر القراء والأدباء رواية ضعيفة البناء والمضمون. وما الاستفادة من قتلة غير بروز ظواهر العنف الديني باسم الإسلام.

◙ فكرة خلق القرآن سببت فتنة كبيرة أريق فيها الكثير من دماء المسلمين من علماء ومفكرين وعامة الناس الذين خالفوا المعتزلة

وما الذي سيؤدي إلى هدم المُثل الإسلامية القويمة هل هي رواية مهلهلة ضعيفة البناء الروائي، أم انحراف الناس عن المفاهيم الصحيحة وتوجههم إلى أفكار أكثر رجعية من الجاهلية. وما تفسير قول شخصية سياسية مهمة في عالمنا العربي إلى أن نشر الوهابية كان بسبب توجيه بريطاني.

هذهِ التساؤلات التي استعرضناها هنا قد ترشدنا إلى فكرة قد يُلغى عندها التعصب الديني، والعنف الديني الإرهابي إذا صح التعبير وتتسيد فكرة ألّا عاطفة في الفتن على هذه الشاكلة بل الحكمة والتنديد والاعتزاز بما نعتنق وبما نريده. فالعاطفة هي الوتر الذي يضرب عليه رعاة هذه الفتن.

نختم كلامنا بقول إن ضبط المفردة هو أول التفكير السليم وتوجيه الخطاب الديني إلى ناحية ينعدم فيها التعصب وتوجه فيها المفاهيم إلى الصواب دون انحراف أو تضليل هي غاية الدين. والتدبر هو جوهر الإنسان فإذا انعدم التدبر انعدم العقل الذي هو هبة الله. وإذا تم ما سبق فالمعتنقون لهذا الدين العظيم لا يغدون يواجهون الفتن إلا بحكمة الإسلام الحقيقي.

9