فالح حنظل من ذكريات العهد الملكي العراقي إلى أفق التاريخ الإماراتي

كتابة التاريخ يراها المؤرخ العراقي مسؤولية لا مجاملة، ولا خلق أحداث ونسج معلومات لتحسين الصورة أو تحقيرها. فهو يعلم أن تحسين الصورة كتحقيرها عند كتابة التاريخ، فكلاهما يكونان تزويرا وكذبا. 
الخميس 2019/03/07
شاهد على انهيار الحداثة في الشمال يؤرخ لتفتّحها في الجنوب

عندما دخل فالح حنظل الكلية العسكرية العراقية عام 1954 وتخرج منها ملازما، لم يكن يتخيل أنه سيكون شاهدا على حدث بدّل تاريخ العراق وقلبه رأسا على عقب، ألا وهو حدث 14 يوليو 1958.

 كان صباحا كبقية الصباحات بالنسبة إليه. خرج من داره ليعبر الجسر إلى عمله في قصر الرحاب، وإذا بقوات مِن الجيش تمنعه من العبور، فراح يستفسر من مقر عمله عبر التلفون عمَّا حدث، وإذا بالمقر، حيث رئيس الحرس الملكي، لا يعلم بشيء، حتى وصلت مفرزة وحاصرت القصر، واستسلم الملك والوصي وبقية العائلة الملكية، ولكن ذلك لم يمنع وقوع المذحبة الرهيبة، والتي راح ضحيتها الملك والوصي والعديد من أفراد الأسرة الهاشمية التي كانت تحكم العراق، إضافة إلى رئيس الوزراء الأسبق الباشا نوري السعيد وآخرين.

حنظل الذي يعد أفضل مَن ألف ووثق الحدث في كتابه “أسرار مقتل العائلة المالكة في العراق”، كان قد التقى بقاتل العائلة ستار العبوسي، بعد حين، وأخبره الخبر اليقين، والندم القاتل، حتى وصل الرجل إلى حافة الانهيار، مِن وقع الجريمة، وانتهى منتحرا، بعد أن رفعه الثوار إلى رتبة عقيد، ولم يُحاسب، ولم تحتج عليه الأحزاب التي عدت الثورة فاتحة أبواب الجنة لأهل العراق، لكنها على ما يبدو فتحت أبواب جهنم، ولم يجد من أتى بعدها قفلا لها.

اعتقل الثوار حنظل في بغداد، لكونه من ضباط الحرس الملكي أولا، وثانيا، والكلام يعود له، بسبب أنه كان مفعما بالفكرة والنشاط، فعمر الثانية والعشرين، يرى الخيال حقيقة. بعدها انتقل إلى الأردن حاملا الفكرة ذاتها، فاتصل بوصفي التل، رئيس وزراء الأردن في ما بعد لاستعادة الماضي الذي بدا وكأنه ذهب من غير رجعى.

وظل الملازم المتقاعد، وهو مِن أسرة ضباط في الجيش، فوالده كان عقيدا، يحوم لجمع شمل الغاضبين من الحدث، وفي ذهنه إمكانية إعادة العهد الملكي. إلا أنه عول على الملك حسين بن طلال، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، والعذر أنه كان هناك اتحاد ما بين الأردن والعراق. غير أن الملك الحسين كان حكيما، ويعرف أن ذلك العهد لن يعود، وربّما راح الأردن أيضا إذا عمل للفكرة نفسها، وهو الذي حافظ على ملكه بعض النواجذ، فبعد ثورة العراق كان الأردن هدفا وشيكا.

عاد حنظل إلى العراق بعد سقوط النظام الجمهوري الأول، ليأتي نظام جمهوري آخر على وقع حدث 8 فبراير 1963، فعُين هناك مديرا لمصنع السكاير، لكن حدثا آخر أقلقه كونه من رجال العهد الملكي، مع صغر سنه ورتبته آنذاك، لذا قرر مغادرة العراق ثانية إلى الأردن، وكان قبلها قد حصل على شهادة عالية في الإدارة الصناعية من جامعة سيراكيوز الأميركية.

حنظل المؤرخ

طريقة حنظل في كتابة تاريخ دولة الإمارات ورجالها تركز على تسجيل الحدث عبر الرواية كما هي، وقد كان بأسلوبه هذا رائدا مؤسسا ومرجعاً لمَن سيأتي ليكتب ويبحث
طريقة حنظل في كتابة تاريخ دولة الإمارات ورجالها تركز على تسجيل الحدث عبر الرواية كما هي، وقد كان بأسلوبه هذا رائدا مؤسسا ومرجعاً لمَن سيأتي ليكتب ويبحث

غادر العراق ومازال نفس المعارض في ضميره، لإعادة مجد العهد الملكي،  واتصل به رجال المعارضة العراقيين، مِن أمثال سعد صالح جبر إلا أنه اكتشف أن الهدف كان سرابا، وأن الرجال غير قادرين على إعادة الزمن إلى الوراء.
عمل حنظل في مجال حفر آبار المياه، وفي مجال النفط بأبوظبي، وفي عرض الصحراء، التي وصلها العام 1969. وخلال الخمس سنوات التي قضاها ينام ويعيش في فندق، عبارة عن سيارة لوري، أخذ يتقصى تاريخ المنطقة ويسجل لهجاتها، فجمع مادة غنية ليؤسس عليها كتابة تاريخ الإمارات. فصدر له “معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتحدة”، و”معجم الغوص واللؤلؤ في الخليج العربي”، و”معجم القوافي والألحان في الخليج العربي”.
ربّما وجه إلى الضابط العراقي والمؤرخ الإماراتي فالح حنظل السؤال الآتي؛ كيف قدّر له أن يترك العمل في مجال النفط، وما سيأتي له به من ثروة وعيش رغيد، وهو من أوائل العاملين فيه، ويتفرغ لكتابة التاريخ، والذي مورده لا يغني ولا يسمن؟ لقد انحاز حنظل إلى ما يحب ويشغف به، فكان التاريخ هاجسه، واعتمد في كتابته على الوثيقة والمصدر، فهو لم يكتب مذكرات، ولا نثرا أدبيا، إنما يُسجل التاريخ، وكانت طريقته في كتابة تاريخ دولة الإمارات ورجالها تسجيل الحدث عبر الرواية كما هي، وهو بهذا كان مؤسسا ورائدا، ومَن يأتي ليكتب ويبحث في التاريخ لا بد أن يستند إلى مرجع، وليس أفضل مما كتب حنظل مرجعا.
يرى حنظل كتابة التاريخ مسؤولية، وليست مجاملة، ولا خلق أحداث ونسج معلومات لتحسين الصورة أو تحقيرها. وهو يعلم أن تحسين الصورة كتحقيرها عند كتابة التاريخ، فكلاهما يكونان تزويرا وكذبا. لذلك نستطيع القول إن حنظل حوَّل التاريخ الشفاهي إلى تاريخ مكتوب، في أغلب كتبه، وقد وصفه البعض بأنه أول من كتب بهذا الشكل، وصنع تاريخا مكتوبا. حينها اقترح عليه أن يكتب التاريخ على طريقة محمد بن جرير الطبري، ومَن أتى من بعده، أي يُسجل الحوادث على السنين، لكن ضياع حوادث عدد من السنين منعه من الأخذ بهذا المقترح. لكنه أصدر بدوره “المفصل في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة”، و”رسائل الرسول وكتبه وموفودوه إلى حكام الخليج العربي”، و”الشحوح وتاريخ منطقة رؤوس الجبال في الخليج العربي”، و”ابن ظاهر فيلسوف الإمارات وأمير شعراء النبط”، و”العرب والبرتغال في التاريخ”، و”الشيخ زايد بن خليفة حاكم غمرة أبوظبي- 1855-1909”، و”جامع الأمثال ومأثور الأقوال والكنايات عند أهل الإمارات”، “وموجز تاريخ النفط في بلدان الخليج العربي”، و”مختصر معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية”.
 

الوطن الآخر

حنظل يبرز، خلال نصف قرن قضاه في الإمارات، كمثقف حيوي. فبالإضافة إلى كتبه، قدم برامج تلفزيونية وأسس صفحة “مدارات خليجية”، وأدار المنتدى الثقافي في أبوظبي
حنظل يبرز، خلال نصف قرن قضاه في الإمارات، كمثقف حيوي. فبالإضافة إلى كتبه، قدم برامج تلفزيونية وأسس صفحة “مدارات خليجية”، وأدار المنتدى الثقافي في أبوظبي

مَن التقى بحنظل، وهو في العشرينات، المشتعل نشاطا وحيوية، وفي خياله تسهل العقبات الجسام، لم يُصدق أنه حدب وبهذا الصبر على أن يكون مؤرخا، وهي حرفة تحتاج إلى روية وبُعد نظر، وهكذا وجد نفسه في معمعة التاريخ، ولم تبق للسياسة ذرة في ضميره، فالحلم بعودة النظام الذي خدم فيه، ويرى قد بنى العراق من العدم، قد تبخر.
قد تجد القليل من الكُتاب والمؤرخين يقبل النقد، ويعترف بالخطأ، وأحدهم حنظل، تراه يسأل كثيرا، وإن اقتنع قدم اعتذاره بسهولة، فهو من التواضع أن يجلس مستمعا، وربَّما من يستفيد منهم بعمر أبنائه وأحفاده، لكنه لا يتعامل مع العلم بالعمر وطول التجربة إنما بتراكم الخبرة والدراسة العلمية والنتاج.
هكذا عوض حنظل عن حلمه السياسي بإعادة العهد الملكي بكتابة التاريخ، واقتصاره على تاريخ الإمارات ولهجتها ومجتمعها، بعد أن دخلها وكان عمره خمسة وثلاثين عاما، فما عاشه فيها أكثر مما عاشه ببلاده العراق، ففيها قضى خمسين عاما وما زال يعيش.

إنها رحلة طويلة من الشباب إلى الشيخوخة المفعمة بالنشاط، فمازالت القامة منتصبة ونظرة البصر حادة، والذاكرة فولاذية، ووقته مشغول بالكتابة والبحث. جمع دواوين لشعراء إماراتيين نبطيين، بعد أن كانت قصائدهم محفوظة في الصدور أو مدونة في مخطوطات متفرقة، وقد بلغ عدد الدواوين التي جمعها فالح حنظل نحو ثلاثة عشر ديوانا، وبذلك أسس تاريخا أدبيا كاد يُطوى.

هذا بالإضافة إلى ممارسة التحقيق، ومن تحقيقاته الكتب الآتية “نيل الرتب في جوامع الأدب” لمحمد علي الشرفاء الحمادي، و”الجواهر واللآلئ في تاريخ عُمان الشمالي” لعبدالله بن صالح المطوع، و”عقود الجمان في أيام آل سعود في عُمان” للمؤلف نفسه، و”الإمارات العربية المتحدة والخط الجوي البريطاني” لفاطمة الصايغ، و”الفوائد في تاريخ الإمارات والأوابط” لمحمد سعيد غباش، و”الحوليات في تاريخ الإمارات” ليوسف بن محمد الشريف، و”رسائل الملا حسين” للشيخ سعيد بن أحمد آل حامد. مازالت بعض مؤلفاته المخطوطة تنتظر النشر مثل “قصر الحصن التاريخ والأدب والفن”، و”رسائل السركال” بالاشتراك مع فاطمة  الصايغ، و”الشيخ سُلطان بن سالم القاسمي” وغيرها.
كان حنظل، خلال الخمسين عاما التي قضاها ومازال بدولة الإمارات، متعدد النشاط والفن، والعمر قبل عشرين عاما يساعده على هذا التنوع، فقام بمهمة إعداد وتقديم برنامج تلفزيوني تحت عنوان “آفاق خليجية”، وبرنامج آخر تحت عنوان “المسلمون في إسبانيا والبرتغال”، كذلك له مساهمة في تأسيس وإصدار صفحة ثقافية بعنوان “مدارات خليجية” في جريدة “أخبار العرب”، وقام بتأسيس وإدارة المنتدى الثقافي في أبوظبي.
 

قارئ حنظل يجده واقعيا في التعامل مع العصر
قارئ حنظل يجده واقعيا في التعامل مع العصر

كيف يرى الإماراتيون حنظل؟

لكل هذه الجهود وما لم نذكره لضيق المجال، حصل حنظل على وسام أبوظبي تكريما له على تأليف كتاب “معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتحدة”، كما حصل على جائز العويس للدراسات والابتكار العلمي، وحصل على جائزة أحسن كتاب عن الإمارات، وهو كتابه “جامع الأمثال ومأثور الأقوال والكنايات” عن هيئة الشارقة للكتاب.

كتبت عنه صحيفة الاتحاد الإماراتية، بمناسة تكريمه في العام 2014 من قبل الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي ونائب رئيس دولة الإمارات، بقلم ناصر الظاهري “لقد سعدت أبوظبي والإمارات بوجود شخص شريف مثله عاش فيها، وعمل من أجلها، كانت حملته لنا

الريح الباردة يوما، فسكن في القلوب، وحوطته هُدب العيون، ورد الجميل بأحسن منه وأكثر. كان يعمل وبصمت، ينجز من دون أن يتبختر بعمله هنا وهناك، بغية مراءاة وبغية فائدة تُرجى في الحياة”. كذلك كتبت عنه الصحيفة نفسها وبقلم علي أبوالريش “حنظل وهو يتكئ على زمانه، ويمشي بخطوات أشبه بالجملة الاسمية على صفحة الأيام، تلتقي به في ممر أو بهو أو عند مدخل، وكأنك تصطدم بالقبس، كأنك بحضرة قديس يتلو أحلامه بعرفانية وعيه، وانغماسه في أتون الكلمة، كنورس يغدق فم الموجة برائحة الأجنحة الهفهافة، يمر عليك كما الرواية العتيدة، والثيمة المعتقة بمطر الرصانة والرزانة وصدق الأمنيات، هكذا هو فالح حنظل، ملح الكلمة، وسُكر العبارة المجللة بالمعنى الرصين”.

وكتب عنه سلطان العميمي، الذي شاركه في هم التوثيق الأدبي واللغوي الإماراتي، قائلا “عندما بدأت الاهتمام بالأدب الشعبي وتاريخ الإمارات اتجهت إلى الدكتور فالح حنظل طالبا مساعدته، ووجدتني أمام شخص كأنه يعرفني منذ زمن بعيد، فتعامل معي بحب وود، ومنحني كل ما طلبته من مراجع”. هذا غيض من فيض فالإمارتيون الذين كتبوا وصرحوا بمحاسن فالح حنظل كثيرون، والكرم بينه وبينهم متبادل.

العراق الذي لا يُنسى

على الرغم من أنه ترك بلاده نهائيا وهو في سن الشباب، وقبلها غادرها لبضع سنوات عاشها بالأردن، إلا أنه مازال متعلقا بالعراق، وأخباره تشغله، فعندما عاد بعد 2003 لم يره ذلك العراق الذي تركه، تغير كل شيء، الطرقات والأبنية والبشر، وصار هاجس الطائفية يؤذيه، الطائفية التي وجدها تنخر بمسقط رأسه وملاعب طفولته وحارة شبابه، ويكلثر السؤال عن كيفية الخلاص منها، مع أنه يعلم أن السؤال لا إجابة عليه، وليس هناك من مدى زمني لها، فالأحزاب الحاكمة تعيش عليها، وتراها أسا للديمقراطية التي حملتها إلى السلطة.
تجده واقعيا في التعامل مع العصر، فالزمن الذي لا تستطيع تغييره عليك بدراسته، وعدم استفزازه، كي لا يأتي على الأخضر واليابس، أي الحفاظ على ما تبقى. حنظل لا يكره  ولا يبغض  أحدا على الإطلاق، وإن قيّم الشخصيات بالسالب أو الموجب، فلم ينطلق من شعوره الشخصي، بقدر ما ينطلق من المعلومة التي تحدد ذلك التقييم. هذا ما تعلمه من دراسة التاريخ، وهو الحاصل على الدكتوراه في الدراسات العربية الإسلامية من جامعة أكستر البريطانية.

وإذ يحتفي الإماراتيون بمؤرخهم، مازال في ذهن العراقيين ضابطا في الحرس الملكي ومؤرخا لمصرع العائلة المالكة، الذي يُعدّه من أوثق الكُتب.
هكذا عاش فالح حنظل شبابا مغامرا من أجل تحقيق هدف لا تقدر عليه إلا الجيوش، وهو إعادة العهد الملكي، ولما كل وفُت ما في عضده انتبه إلى مغامرته وخطورتها، وجد نفسه مؤهلا لكتابة التاريخ، وهي مغامرة أيضا، لكن محصولها تثبيت الحقيقة، مثلما ثبتها في كتابه عن مصرع العائلة المالكة في العراق، ومازال يسعى لتثبيت تاريخ أرض احتضنته كحفار آبار ماء، في البداية، و”كانت الأرض ماء مالحا ورمالا، حتى علت العمارات وشُقت الطرقات، ونصبت الجسور، وتحقق كل ما كان يخطه الشيخ زايد بعصاه على تلك الرمال”، كما يقول فالح حنظل.

12