فاروق لمبز الأردني الذي أعطى للحرف العربي أبعادا صوفية معاصرة

عمّان- على مدار عقود من الاشتغال التشكيلي، قدّم الفنان الأردني فاروق لمبز الذي غيبه الموت في الثاني عشر من ديسمبر الجاري عن عمر ناهز التسعة وسبعين عاما، أعمالا تنتمي إلى العديد من المدارس الفنية والتنويعات التشكيلية، من رسومات تحاكي الطبيعة وجمالياتها، إلى لوحات تهتم بالتوثيق الجمالي للأبنية الأثرية، إلى ارتياد آفاق المدرسة الحروفية، التي قدّم فيها أبرز أعماله المصبوغة بطابع عربي أصيل وهوية محدّدة، جامعا بين البساطة في التشكيل الحروفي وجماليات اللون والتركيب والشكل العام.
وتفتّحت عينا لمبز على الطبيعة مبكرا، فكان شغوفا منذ طفولته بتأمل أشكال الورود وجمالها، واعتاد أن يقطف من حديقة البيت مجموعة من الورود ويرتبها وفقا للّون والحجم في الأواني، ليبدأ بعدها بسنوات رسم الورود التي تحاكي تلك الأشكال المختزنة في ذاكرته.
وتلقى الراحل مساعدة في ذلك من أخته الكبرى التي رعت موهبته عبر توفير مواد الرسم له، كما شجعته المدرسة حين رأى فيه المعلمون موهبة واعدة، فأخذت المدرسة على عاتقها تزويده أيضا بالألوان والأوراق، وتشجيعه على المشاركة في المسابقات الفنية، تلك التي نال فيها مراتب متقدّمة لما تضمنته رسوماته من عفوية وصدق في التعبير.
☚ فاروق لمبز هو خطّاط وفنان تشكيلي من الجيل الثاني من رواد الحركة التشكيلية الأردنية
وأنهى لمبز الثانوية العامة وهو يحلم بدراسة الفن، لكنه عدل عن ذلك الحلم لأسباب تتعلق بتحفظات عائلته وقتها، وبسبب النظرة السائدة للفن آنذاك، فدرس الحقوق في جامعة دمشق. وخلال فترة الدراسة عمل في مجال التصميم الإعلاني، ثم انضم إلى “الخطوط الجوية الملكية الأردنية”، ووجد في عمله فيها ما يصبو إليه من احتكاك بعالم الفن وزيارة متاحف العالم والتعرّف على أبرز الأعمال الفنية.
وقد أبدت “الملكية الأردنية” اهتماما بالفنون، وبادرت بتأسيس غاليري “عالية للفنون التشكيلية”، وأُسندت مهمة إدارته للفنان لمبز، وأصبح الرواق مقصد الفنانين ورواد الفن الذين وجدوا فيه ما يلبي حاجاتهم ويعرض أعمالهم بصورة احترافية لم تكن متاحة في المراكز الثقافية العاملة في الأردن أو الصالات التابعة للفنادق الكبيرة.
وتحقيقا لحلمه المؤجل، التحق لمبز المولود في عام 1942 بمعهد الفنون الذي كان يشرف عليه الفنان مهنا الدرة، وبعد توقف المعهد حاول الانضمام لمعاهد وكليات فنية أخرى، لكنه غادرها حين رأى أنها لم تضف لتجربته ما يتوق إليه، فقرّر أن يطوّر مهاراته الفنية ذاتيا، وهو ما كان.
اتسمت أولى رسومات الفنان باقترابها من المواضيع المستوحاة من الطبيعة والحياة الاجتماعية والأماكن الأثرية، فأنجز لوحات تمثل البائعين المتجولين مثل بائع البطيخ، ولوحات تركّز على الحياة البدوية ومفرداتها، وأخرى تتناول الحياة الريفية والحقول والمراعي، وغيرها من لوحات رسمَ فيها البيوت القديمة ورصد مشاهد من موسم الحصاد.
وبعد منتصف التسعينات، توقف لمبز عن رسم هذه المواضيع، واتجه إلى المدرسة الحروفية، وقد وصف هذا التوجه بقوله “انتقلت للحروفية بعد شعوري بالإشباع من رسم المشاهد الطبيعية والحياتية”، مقتنعا بأن الحروفية أكثر قدرة على تجسيد التراث الفني العربي الإسلامي، وأكثر تعبيرا عن العلاقة الوثيقة بين البيئة والواقع الاجتماعي والعقائدي، إلى جانب قدرتها على التعبير عن الأبعاد الزمانية والمكانية، وعن الحركة والسكون في الفن.

☚ الفنان الأردني فاروق لمبز كان يركز اهتمامه على إبراز ما وراء الحرف العربي من حكايات وحنين ومشاعر
ولم يكن الفنان يهدف من خلال أعماله الحروفية إلى نقل مفردات التراث فحسب، بل استلهامه وتكريمه والاحتفاء به وإعطائه قيمته الحقيقية، لهذا تبنى من الخطوط العربية الأساسية السبعة خطَّ الثُّلث الظاهر بحركته وانسيابيته المميزة في أغلب أعماله الحروفية.
ولم يعتنِ لمبز بأشكال الحروف حسب، بل ركز اهتمامه على إبراز ما وراء هذه الحروف من حكايات وقصص وما تثيره في النفس من حنين ومشاعر ترتبط بحياة الناس وبالطبيعة. لذا تتميّز لوحاته الحروفية بألوانها وخطوطها المبتكرة، واعتماد البناء الداخلي للشكل حيث تتراكب الحروف وتتجاور وتتقاطع ضمن تقنية بناء داخلية.
ولإبراز ذلك اعتمد في توجّهه هذا على رسم الخطوط على أوراق سميكة، ثم قصّها بهدف ضغط القصاصات الكثيرة وتركيبها فوق بعضها البعض، بحيث تبدو الحروف بارزة أو نافرة على السطح، وهي تقنية تشبه إلى حد كبير تقنية الطباعة الفنية على الزنك وسواه من المواد.
وتتّسم الألوان التي استخدمها لمبز في لوحاته باقترابها من ألوان الطبيعة، فلا هي مشعة وقوية، ولا هي مطفأة، بل تتأرجح بين هذين المسارين، وهذا ما يمنح المتلقي إحساسا بالراحة البصرية والنفسية خلال تأمله العمل.
كان الفن كما يراه لمبز “لغة خاصة ذاتية”، تعكس تراكمات وتفاعلات الذاكرة والحس الواعي واللاواعي لدى الفنان، ويستعملها للتعبير والاتصال، باستخدام أساليب وتقنيات مرئية ذات أبعاد متعدّدة تخرج عن نطاق استيعابها حتى من قِبل الفنان نفسه، فالفنان كما كان يقول دائما “يسبق بعمله الفني زمانه”، والعمل الفني المبدع “يحتوي في حيثياته الماضي والحاضر والمستقبل”، والكثير من الفنانين “فُهمت وقُدّرت أعمالهم بعد رحيلهم ورحيل مَن لم يفهمهم في زمنهم”.
وفاروق لمبز هو خطّاط وفنان تشكيلي من الجيل الثاني من رواد الحركة التشكيلية الأردنية، ولد في عمّان عام 1942، ودرس الحقوق بدمشق، لعب دورا مهما في بناء وتقوية الحركة الفنية في الأردن. شارك في العديد من المعارض الجماعية المحلية والدولية التي نظمتها جمعية الفنانين التشكيليين الأردنيين، كما عمل كرئيس لقسم الإنتاج الفني في الملكية الأردنية من 1967 إلى 1999، ومديرا تنفيذيا لمعرض “عالية” من 1982 إلى 1996 ورئيسا للإنتاج الفني والمعارض في المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا من 1999 إلى 2000، كما شغل منصب المدير التنفيذي لقسم الترويج والإنتاج الفني في الملكية الأردنية، منحه الملك الراحل الملك الحسين بن طلال وسام الكوكب الأردني من الدرجة الرابعة.
وأقام الفنان الراحل ستة عشر معرضا شخصيا، خُصّص معظمها لفن الخط والحروفيات العربية، وشارك في العديد من المعارض الجماعية، من بينها معرض الفنون التشكيلية الأردني في بكين عام 1984، ومعرض “نقطة لقاء” في غوتنبورغ بالسويد عام 1998.