غـواية الحبر ونداءاته

الاثنين 2016/06/13

ثمة عصافير كثيرة أتذكرها حتى الآن، كانت تضربُ بأجنحتها الخفيفة على هواء عريض لا قِبل لها باقتحامه أو التمرّغ فيه. هكذا بدأت علاقتنا بتصفح الكتب الأولى أو قراءتها. قد لا نفلح في تذكر كتاب بعينه، يمثل أول كتاب في حياتنا. أعني أول كتاب قرأناه حقا، أو تصفحناه واطّلعنا عليه.

كنا نسعى، في سنواتنا الأولى، إلى احتضان العالم بحواس شرهةٍ تطمح إلى تجربة كل شيء يصادفنا أو نصادفه. نسلّط عليه حواسنا بحنو بالغ حينا أو قسوةٍ غير آبهةٍ حينا آخر: فراشة تتوهج على حجرٍ كتاب ممزق الغلاف، صورة لكائن ما، قصاصة من جريدة مهملة. ومن هنا، ربما نشأت صلة للكثير منا بهذا العالم العجيب: الكتاب. كان يحدث أحيانا أن أعثر على كتاب أو مجلة ملقاة بجوار بيت فخمٍ، لم يجد أصحاب تلك المطبوعات ما يدعوهم إلى الاحتفاظ بها، أو أن صلتهم بالقراءة لا تتعدى التصفح العابر، أو رؤية ما فيها من صور، أو ألوان أو عناوين. ومع ذلك فإن تلك المصادفة ومثيلاتها كانت تقودنا إلى داخل الغابة، أي إلى عتمتها الندية الصافية. وحين تتقدم بنا أعمارنا قليلا، تنمو لدى الكثير منا أجنحة غير مرئية أو ملكة خاصة. أعني بها القدرة على تذوق ما نقرأ. وتصبح للقراءة في هذه الحالة رائحة فواحة أو طعم يدل عليها ويفصح الحبر عن غوايةٍ لا تقاوم ونداءاتٍ لا تنسى. وهكذا أخذتُ أصغي بلذة فائقة إلى همهمة كتاب يتذمر على رصيف لبيع الكتب المستعملة، أو على رفّ في مكتبة عامة.

لا تزال تجربتي مع الكتاب الأول أو الكتب الأولى، حاضرة في الذاكرة حضورا غير مبرأ من العذاب الذي كان يتكرر كل أسبوع. كنت أذهب إلى المدرسة في ساعات الصباح الأولى، الأولى تماما. كان بيتنا محشورا في أحد الأزقة القريبة من منطقة 52، في جانب الرصافة ببغداد. وكان يسكن تلك المنطقة الحديثة الكثير من ميسوري الحال من الفنانين، وأساتذة الجامعة والكتاب. شعور خاص كان ينتابني حين أقرأ أسماءهم مكتوبةً على مداخل بيوتهم الفخمة، وعلى أغلفة كتبنا المدرسة أحيانا.

كنت أذهب إلى المدرسة مبكرا دائما، الأرصفة مغمورة بالضوء البارد والغبار، وثمة شمس صغيرة تقبل من بعيد. وحين أتجه إلى مدرستي في منطقة البتاوين على مقربة من نهر دجلة، كانت تشدني إلى المكان ظاهرتان: ذلك الخليطُ المحبب من الأعراق والإثنيات واللهجات العراقية المتنوعة، وكشك كبير لبيع الصحف والمجلات. وقد اعتدت أن أشتري الخميس من كل أسبوع، ملزمة جديدة من كتاب تراثي بالغ الروعة. وهو طبعة مشذبة، ورشيقة من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، قامت بمراجعتها مجموعة متخصصة من الكتاب، بإشراف الدكتور طه حسين. كان ثمة عيد أسبوعي يخصني وحدي: ملزمة جديدة من “تجريد كتاب الأغاني” للحموي، في انتظاري لدى بائع الصحف والمجلات. اثنتان وثلاثون صفحة من القطع الكبير. كنت أتأبطها وأنا أدخل المدرسة، الخميس، مزهوا أمام زملائي الطلبة.

كان تحرير الكتاب أنيقا وفي منتهى الدقة. وكلما اكتمل لديّ مجلد جديد من هذا الكتاب ذهبت به إلى شارع المتنبي لتجليده. وهكذا كانت أباريق السهر والترقب لا تنضب، وأنا أنتظر عيدي الأسبوعي الخاص حتى اكتمل لديّ الكتاب بمجلداته الخمسة.

لقد مرت على مكتبتي حروب كثيرة وحصارات لا حصر لها، فلم يعد شملها مجتمعا كما كان في الماضي. ومثلما توزع شعب بأكمله على المنافي ومخيمات اللجوء، توزعتْ كتبي بين مدن شتى: بغداد، صنعاء، العين، عمّان، وأخيرا بولو التركية. ومع ذلك كله، لا يزال ذلك الكتاب منتظرا عودتي إلى بغداد دون جدوى.

شاعر من العراق

14