غزو العراق.. هل استحق هذا الثمن؟

هناك قانون إنساني وفرضية منطقية أكدتها جميع حروب الكرة الأرضية تشير إلى أن الحرب لا تندلع نتيجة المزاج الفردي السريع وردود الأفعال العاطفية للحاكم أو مؤسسة السلطة العليا، بل هذا القرار اللاإنساني يتبلور في رؤوس أصحابه لأهداف استراتيجية كبيرة بغض النظر عن صحتها. الحرب قرار لحظة فقدان التوازن، والغزو تعبير عن استحضار لهمجية لاإنسانية، تختفي خلف السلاح ماكنة القتل التي اخترعها العقل كأداة لحفظ التوازن البشري.
ستظل جريمة الغزو الأميركي للعراق عام 2003 نقطة سوداء في العمر السياسي للدولة الأميركية تضاف إلى البركة السوداء التي غرقت فيها المهابة الأميركية في عنفوانها بفيتنام. فآثارها ما زالت حيّة في ذاكرة الأميركيين من خلال توثيقات هوليوود السينمائية وروايات وقصص المبدعين من الكتاب وذكريات الجنود الذين خلفوا أصدقاء وزملاء لهم في تلك الحرب غير المبررة. كذلك قرار الانسحاب المرتبك من أفغانستان، والأكثر دراماتيكية الانسحاب من العراق بعد تركهما للفوضى التي ما زالت مستمرة بصورة أكثر وحشية.
لا مبررات أيديولوجية أو استراتيجية لغزو العراق من قبل الولايات المتحدة، حيث لم تسبب حكومة قبل عام 2003 أذى مباشرا أو غير مباشر لأميركا دفع المسؤولين في ثلاث إدارات (جورج بوش الأب، بيل كلينتون، جورج بوش الابن) لاختيار طريق الإيذاء والعدوان العسكري المباشر المتدرّج وصولاً إلى قرار الغزو، وتبعتها إدارتا باراك أوباما التي قدمت العراق هديّة ذهبية لطهران، وجو بايدن الذي يستكمل تأهيل طهران لموقع دولة النفوذ الكبيرة في المنطقة متسلحّة بالنووي، مع أن أصدقاء أميركا التاريخيين في الخليج، في مقدمتهم السعودية، مؤهلون من حيث الصداقة أكثر لهذه المكافأة التاريخية التي يسمّيها الإيرانيون انتزاع المكانة.
كانت العلاقات الأميركية – العراقية طبيعية قبل عام 1990، تبادل مصالح تجارية وغير تجارية، لم يكن السلاح من ضمنها لأن مشكلة العراق ارتباطه تسليحياً بالاتحاد السوفييتي، مثلما كانت عليه كل من مصر وسوريا لينهار فجأة عام 1990.
لماذا لم تكن إيران هدفاً للاحتلال الأميركي وهي الأكثر صراخاً برمي إسرائيل في البحر! أم إن اللعبة في الإيحاء بالعداوة كانت مُتقنة الإخراج
لا نرغب في تكرار مسلسل مبررات الغزو غير المنطقية التي أصبحت معروفة لعموم الناس، لكن من المفيد التذكير ببعض الدوافع والوقائع أمام أبناء الجيل العراقي والعربي الجديد، أهمها النشاط المتصاعد لمجموعة اليمين الأميركي المتشدد في تنفيذ مشروع التدمير العسكري تلبية لرغبات القوة الأكبر المحركة لعالم السياسة الكونية وفق تبريرات مصنوعة، تلك ليست نظرية مؤامرة كما يسوّق، بل أحداث واقعية، أحدها تصريحات واحد من صنّاع السياسة الأميركية السفير زلماي خليل زاد الذي قال “إن الانتصار العسكري العراقي على إيران (1988) سيؤدي إلى تداعيات تهدد الأمن القومي الإسرائيلي”.
قبل واقعة احتلال النظام العراقي للكويت في 1990 التي تحوّلت وأريد لها أن تصبح مفتاحاً للنكبة المستديمة على العراقيين، إلى حد اللحظة، بتنفيذ مشروع تدمير العراق، هل احتفظت الذاكرة الحربية في العالم بأن غزواً عسكرياً لدولة يقابل بغزو جوي وبري تدميري تبريراته الأولى إخراج القوات العراقية التي كانت فعلياً في حالة انسحاب من الأراضي الكويتية.
لا توجد وقائع جيوسياسية مباشرة ملموسة تدعم اختيار العراق ليصبح مركزاً وقاعدة انطلاق، ما سمّته مجموعة اليمين “مشروع الشرق الأوسط” بعد إسقاط دولته التقليدية وإقامة نظام سياسي تقوده مجموعة من الفاسدين وبعض قطاع الطرق والضائعين في مقاهي الشام وطهران من متعاطي الكراهية والثأر، حملة شعارات كاذبة مثل “المظلومية الشيعية” التي انتظر العراقيون وفي مقدمتهم أبناء الشيعة ربع قرن ليؤكدوا للعالم زيفها.
لماذا لم يكن الهدف سوريا، مثلاً، كموقع استراتيجي لا يقل أهمية عن العراق لمشروع أميركا للشرق الأوسط الجديد. هل تكفي شعارات معاداة إسرائيل التي أطلقها النظام العراقي لتكون السبب المباشر لهذا الاختيار؟
النظام السياسي العراقي السابق لم يكن عدواً أيديولوجياً للولايات المتحدة مثلما مررته استحضارات المجموعة اليمينية إعلامياً وسياسياً. سياسات النظام الإيراني تجاه واشنطن في عهد الخميني (1979) وبعده خامنئي (1989) أكثر إيحاء بالخصومة من العراق من خلال وقائع أريد لها إضفاء صفة الثورية على النظام الجديد كواقعة الرهائن الأميركان وما بعدها حوادث التفجيرات في بيروت والخُبر السعودية وغيرها.
لماذا لم تكن إيران هدفاً للاحتلال الأميركي وهي الأكثر صراخاً برمي إسرائيل في البحر! أم إن اللعبة في الإيحاء بالعداوة كانت مُتقنة الإخراج، كما أن نظام ما بعد 1979 الإيراني واجه معارضة شعبية ووطنية واسعة قوبلت بحملات شرسة من الإعدامات لا تقارن بممارسات النظام العراقي القمعية ضد المعارضين من منتسبي “الإسلام الشيعي الولائي”، خلال فترة الحرب مع إيران. الحقائق اللاحقة كشفت السبب الحقيقي لعدم غزو إيران وإسقاط نظام ولاية الفقيه لأنه الأكثر خدمة لتدمير قوى النهضة في المنطقة.
النظام السياسي العراقي السابق لم يكن عدواً أيديولوجياً للولايات المتحدة مثلما مررته استحضارات المجموعة اليمينية إعلامياً وسياسياً
في الجزئيات الإجرائية غياب المبرّرات التاريخية والسياسية دفع قيادة البنتاغون لاستثمار واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001، والتي لا صلة واقعية للعراق بحيثياتها، لصناعة مناخ الاحتلال العسكري للعراق. كثيرة الوثائق التي كشفت الزيف، منها توجيه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد للعاملين معه بعد لحظات من هجمة نيويورك “بأن الوقت قد حان لغزو العراق”.
الأكثر مدعاة للسخرية أن رئيس الدولة الأولى في العالم جورج بوش الابن استحضر الأساطير والخرافات لتمرير قرار غزو العراق. الكاتب الصحافي الفرنسي جون كلود وثّق بعض مواقف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في كتابه “سوف أنشر تكذيباً لو كرّرتم الخبر” الذي صدر عام 2003 “الرئيس شيراك لم يصدق أذنيه وهو يسمع صوت بوش في الهاتف يقول له بالضبط إنه تلقى وحياَ من السماء لإعلان الحرب على العراق لأن يأجوج ومأجوج انبعثا في الشرق الأوسط للقضاء على الغرب المسيحي”. كرر بوش ذلك على العالم في مؤتمر صحافي بعد أيام.
شيراك عبّر في تعليقاته لمؤلف الكتاب عن خشيته من أن هذا الجهل الفادح بمنطقة الشرق الأوسط سوف يؤدي إلى كارثة، فهم لا يفقهون سوى أن الأمر يتعلق بصراع بين السنة والشيعة. توقع منذ عام 2003 أن حرب العراق سوف تتحول إلى حرب أهلية يذهب ضحيتها العديد من المدنيين الأبرياء، وأن القاعدة سوف تجد في العراق مرتعاً سهلاً للتوسع وجمع الأنصار.
قد يجد بعض سياسيي بلدان العالم الثالث التبريرات في استخدام المصطلحات الدينية لقيادة جمهور جاهل متخلف، رغم جسامة الخسائر، مثلما نشاهده في مثال العراق، وفق نظرية الفيلسوف البريطاني بيرتراند رسل “يمكن أن تكون المجتمعات جاهلة ومتخلفة، ولكن الأخطر أن ترى جهلها مقدساً”. أما أن تنبعث الأساطير ونزعات اللاهوت التي غادرتها أوروبا والعالم منذ أكثر من خمسة قرون على لسان رئيس الولايات المتحدة لتبرير شن الحرب على العراق، تلك إدانة كبيرة تمس المركز الديمقراطي العالمي الذي تقول أميركا إنها تقوده.
هنا تبدو فرضية تدمير العراق، الذي تحقق خلال التسعة عشر عاما الماضية، هي الأكثر قبولاً بعد تراجع وهشاشة وسخرية دعوات امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل لدرجة أن أصحابها تنصلوا منها بسذاجة وسخرية، مثل جورج بوش الابن الذي اعترف بخدعتها، كذلك تلفيقات وزير الخارجية كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي الذي عبّر عن خجله لأنه كان ضحية معلومات مضللة.
تم التنظير لفكرة تدمير العراق لدرجة أن ثلاثة صحافيين أميركان اجتمعوا على نشر كتابهم “محو العراق: خطة متكاملة لاقتلاع عراق وزرع آخر” هم مايكل وترمان وريتشارد هيل وبول ويلسون، وفق سيناريو شبيه بيوغسلافيا من خلال تفجير الكراهية والانتقال من قتل النساء والأطفال إلى المدينة بطقوسها ومناهج حياتها وذاكرة الناس الجماعية، والأخطر انقلاب المقاييس بحيث يصبح الشاطر ذكياً والنبيل العفيف غبياً واللص سوياً والشريف منحرفًا.
أليس هذا ما يحصل اليوم في العراق بعد الوقائع المريرة التي تتحدث عن أرقام مذهلة؛ أكثر من مليون ضحية و6 ملايين يتيم ومليوني أرملة وتشريد أكثر من 4 ملايين في المدن العشوائية بسبب انتشار الفقر والأمراض والجوع والمخدرات، حيث يتندّر أخيراً نائب رئيس وزراء شيعي سابق بوجود 12 مليون عراقي يتعاطى المخدرات.
أخيراً، مفيد الاستعانة بأمثلة أميركية لا عراقية ولا عربية؛ السفير الأميركي جيمس أيكنز الذي اشتغل في كل من الرياض وبغداد علّق مستهزئاً بالهدف الذي دفعت واشنطن من أجله مئات المليارات من الدولارات وخسائر في أرواح الجنود الأميركيين والعراقيين “ما يبعث على الحزن أن الهدف المعلن أولا لشن الحرب كان يستند إلى الكذب والزيف والإيهام بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ثم عندما كشفت تقارير المفتشين عدم وجود تلك الأسلحة المزعومة لجأ بوش إلى تغيير الهدف وربط التمرد والمقاومة العراقية بما أسماه الحرب الدولية على الإرهاب، وسرعان ما عمّ التدهور الأمني في العراق وشاعت الفوضى وتقلص نفوذ أيّ سلطة عراقية، ليقتصر على مساحة المنطقة الآمنة الخضراء في قلب بغداد. لم أسمع خلال السنوات الأربع التي عملت فيها في العراق مثل تلك التقسيمات العرقية والطائفية. هذه النتيجة لا تساوي كل تلك الخسائر”.
فهل استحق غزو العراق هذا الثمن؟