غرفنا الداخلية المظلمة

توجد داخل كل واحد منا منطقة مظلمة أو غرفة مغلقة لا يجرؤ على الاقتراب منها أو فتحها للآخرين. في هذه الغرفة تتكدس الحقائق التي نعرفها عن أنفسنا، ونحاول أن نحجبها عن العالم، والذكريات والتجارب التي نرغب في نسيانها ودفنها، تتكوم هناك في زاوية مظلمة لسنوات وسنوات دون أن تتحلل أو تختفي.
ومرة حاولت أن أقترب من كومة ذكريات قديمة ظننت أن عظامها بليت مع الوقت، لكن ما راعني إلا وهي تنتفض وتنفض الغبار عنها وتستقيم واقفة بمجرد أن لمستها يدي. وفي عينيها وجدت نفس الفزع القديم الذي أعرفه ويعرفني جيدا.
الغرف المظلمة هي الغرف التي تديرنا وتتحكم في كل ما نفعله، وأكوام الذكريات والمخاوف والحقائق التي تتكدس في زواياها وتبدو كما لو أنها مجرد عظام متحللة هي من يمسك بأطراف الخيوط التي تأخذنا وتعيدنا.
الغرف المظلمة غرف إدارة كاملة وكومة صغيرة بداخلها، بحجم حبة فول قادرة على جعلنا تعساء ومحبطين مدى الحياة.
يوجد بشر أيضا داخل هذه الغرف، ميتون في الواقع، لكننا لسبب أو لآخر فضلنا أن ندفنهم في هذه الغرف المغلقة البعيدة بدل أن ندفنهم في التراب. لدينا أسبابنا طبعا، التي تجعلنا نقدم على خطوة خطيرة كهذه.
المدفونون داخل غرفنا المظلمة يتحولون إلى أشباح تطاردنا على الدوام وتنغص علينا حياتنا، وهم وإن كانوا ميتين، إلا أنهم حاضرون على الدوام.
ليست الغرف المظلمة مكانا آمنا لنختفي داخله من أنفسنا. بمجرد أن نضع أقدامنا هناك سنكتشف أننا محاطون بكل ما يخيفنا، بكل ما يطاردنا، بكل موتانا، وبكل ما اعتقدنا أنه انتهى.
بعضنا لا يقترب أبدا من غرفته، بعضنا يمر من أمامها كل يوم مسرعا حتى لا يتوقف لحظة ويلتفت إليها، بعضنا يحاول أن يفتحها منذ أعوام وأعوام لكنه يقف هناك متسمرا كتمثال على الباب وفي يده مفتاح صدئ، والذين دخلوها لم يعودوا منها أبدا.
الغرف المظلمة مقبرتنا الأخيرة. ندفن فيها كل شيء إلى أن يأتي اليوم الذي نقرر فيه أن ندخلها بأنفسنا ونتمدد جنب آلامنا وذكرياتنا وعذاباتنا.
ليس الموت سوى تلك اللحظة. ولو أننا تركنا غرفنا تخرج منا، لو أننا خرجنا منها، لما وجد الموت.
الموت هو تلك اللحظة التي نقرر فيها أن ندخل قبرنا أخيرا بأقدامنا وبكامل إرادتنا، ونتمدد في استسلام ومحبة جنب أنفسنا.
لا أحد بلا غرفة، لأن لا أحد فوق الموت، والكلام عن أن فتح الغرف ونشر عذاباتها وآلامها ومشاقها مريح، كلام مجانب للصواب. وجدت هذه الغرف من أجلنا، من أجل أن تنادينا يوما ما فنذهب إليها طائعين.
إذا نادتك غرفتك، اذهب إليها فورا، فهي لا تنادي من لاشيء، بل من أجل أن تستريح وتهدأ. الموت مثل الحياة يبنى حجرة حجرة، وكما نعلي جدران بيوتنا ونؤثثها بما نحب، نعلي جدران غرفنا الداخلية المظلمة ونؤثثها بما نحب أيضا. الموت خيار كالحياة، ومثلها يتوزع بين موت شاق وقاس ومؤلم وموت سعيد، هو ذلك الذي نختار فيه بأنفسنا أن نلامس أطراف كل شيء ونتحد مع ألمنا.