عن تأقلم المصريين مع الصعوبات

تفهم المصريين للأزمات الاقتصادية قسرا أو رضاء ساعد على تجاوز واحدة من العقبات التي تواجهها بعض الدول النامية والمتمثلة في محاولة تقليل الغضب بالقسوة المادية تارة والإقناع المعنوي تارة أخرى.
الجمعة 2024/05/10
الحكومة تراهن على قدرة المصريين على التحمل

يلاحظ المراقب لشؤون المصريين أن هناك درجة عالية من التأقلم مع الأزمات المعيشية، من الصعب أن ينسب الأمر كله فيها إلى الخوف من السلطة، فقد بدا هناك تفاهم ضمني على أن الوضع الاقتصادي في العالم والتحديات الإقليمية والتهديدات القادمة من محاور مختلفة تتحمل جزءا كبيرا، وأن القيادة المصرية تريد الخروج بالدولة من دوامة المشاكل المتكررة منذ السبعينات من القرن الماضي.

إذا كان هذا الاستنتاج صحيحا، أو به جوانب كبيرة من الصواب، فهذه فرصة متبادلة بين القيادة والشعب لاستثمارها من أجل تمتين العلاقة بينهما، وعلى الطرفين التجاوب معها وعدم تفويت الفرصة، وتجاوز فكرة “الشعب الصبور” وكل الأفكار والشعارات التي تدور في فلك أنظر حولك وشاهد مصير بعض الدول التي انهارت هياكلها وتشردت شعوبها وتلك التي تكافح للبقاء، فمع أن قدرة المصريين مرتفعة لاستيعاب الألم، إلا أن عدم وجود “كتالوج” لتفسير غضبهم أو هدوئهم قد يؤدي إلى حدوث مفاجآت.

زادت الأزمات الاقتصادية وخلّفت وراءها مشكلات اجتماعية عميقة، لكن لا يزال هناك قدر كبير لدى شريحة عريضة من المصريين على تحمل العواقب والتبعات إذا تيقنت من أهمية الأمل الذي تبثه الحكومة بشأن تخطي الأوضاع الحرجة، فالأجواء الخارجية التي تحيط بمصر وارتداداتها الداخلية القلقة كانت كفيلة بامتصاص ما يمكن أن يظهر على السطح من تململ واسع من قبل بعض المواطنين، ما سهّل مهمة النظام الحاكم في امتصاص جوانب من الغضب المكتوم لدى البسطاء، فهم أول من أصابتهم أضرار الحالة الاقتصادية المتأزمة في الفترة الماضية، وهم أول من هبت الدولة لنجدتهم بحزمة طويلة من البرامج الاجتماعية.

◄ الفرصة تبدو مواتية أمام الرئيس عبدالفتاح السيسي لتوثيق عرى العلاقة مع شعبه في فترته الرئاسية الثالثة والأخيرة، إذا نجح في صياغة عقد جديد، يضم كل المصريين بلا استثناء

امتص تأقلم المصريين مع الصعوبات جانبا من القلق الذي حدث في الفترة الماضية، في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وتصاعد حدة التضخم وارتفاع العملات الصعبة أمام الجنيه المصري، ففي الظروف التي تحدث فيها قفزات سلبية تواجه الكثير من الحكومات واقعا يحتاج إلى أنواع مرنة من العلاجات، ولم يظهر ذلك في مصر، وواصلت الحكومة طريقها لإتمام الإصلاحات والتغلب على التشوهات المتراكمة والمبالغة أحيانا في فرض الضرائب، ووجدت قبولا صامتا من المواطنين.

ساعد تفهم المصريين للأزمات الاقتصادية، قسرا أو رضاء، على تجاوز واحدة من العقبات التي تواجهها بعض الدول النامية، والمتمثلة في محاولة تقليل الغضب، بالقسوة المادية تارة، والإقناع المعنوي تارة أخرى، ولم تشهد مصر هذين النوعين مباشرة، بل وجدت الحكومة استعدادا واضحا للتأقلم مع الظروف الاقتصادية، ما مكّنها من الحصول على أريحية ظاهرة في تصوّراتها الاقتصادية، والمضيّ في مخططاتها كما رسمتها منذ فترة بلا تراجع أو نقصان.

أراحت هذه السياسة النظام المصري، ومنحت الجهات التنفيذية درجة عالية من الثقة في استكمال المشوار بقليل من الإزعاجات، والتي كانت في أوقات سابقة كفيلة لتحث الدولة على التوقف عن مواصلة مشوارها في المجال الاقتصادي خوفا مما يحمله في أحشائه من روافد شعبية سلبية.

يختزل المصريون في عقلهم الجمعي المظاهرات العارمة التي اندلعت في القاهرة منذ حوالي خمسة وأربعين عاما بسبب زيادة أسعار الخبز بشكل طفيف في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ودفعت حكومته للتراجع عن قرار الزيادة على الفور.

زادت أسعار الخبز وغيره من السلع أضعافا مضاعفة، وحدثت بالتوازي ندرة في بعض أنواع السلع الحيوية، ولم يظهر المصريون غضبا في الشارع وقاموا بكل ما يمكن القيام به من تقشف، ولم يعلنوا غضبا جماعيا، أو تبنوا ما يقلق الحكومة عمليا، وهي من المواقف التي بعثت برسائل طمأنت الحكومة، وجعلتها تتمادى في خططها العامة، حيث أيقنت أن الشعب يتفهم تصرفاتها ولن يثور على سياساتها الاقتصادية.

يمكن أن تتعامل الحكومة مع هذه الحالة بثقة وتواصل طريقها دون التفات لأنين هنا أو صراخ يأتي من هناك إلى حين تحدث صدمة فتنتبه إلى أن منهجها خاطئ، ويمكن أن توظف الصورة العامة الراهنة في وضع عقد اجتماعي يساعد على تمتين العلاقة بين المواطنين والدولة، يتواءم مع شعارات جذابة تحملها “الجمهورية الجديدة”.

تؤكد بعض المعطيات أن الحكومة تسير في الطريق الأول وتعي خطورته وتحاول تخفيف الوطأة الاقتصادية، بينما لا توجد ملامح ملموسة على الطريق الثاني، والذي يحتاج إلى تحوّل نوعي في الكثير من المجالات، فإصلاح الأوضاع الاقتصادية وتحمّل روافدها السلبية يخرج من رحم عقد يشمل إصلاحا شاملا، ومع الأهمية  العاجلة للشق الاقتصادي، غير أن الشق السياسي لا يقل أهمية، فهو البشارة التي تعزز قناعات الناس بما يسمعونه من خطاب يحض على التحمل وينطوي على تفاؤل في المستقبل.

◄ الأزمات الاقتصادية زادت، لكن لا يزال هناك قدر كبير لدى شريحة عريضة من المصريين على تحمل العواقب والتبعات إذا تيقنت من أهمية الأمل الذي تبثه الحكومة بشأن تخطي الأوضاع الحرجة

تبدو الفرصة مواتية أمام الرئيس عبدالفتاح السيسي لتوثيق عرى العلاقة مع شعبه في فترته الرئاسية الثالثة والأخيرة، إذا نجح في صياغة عقد جديد، يضم كل المصريين بلا استثناء أو تمييز على أساس ديني أو اجتماعي، لأن الحفاظ على اللُّحمة الوطنية يحتاج إلى صياغة منهج يناسب طبيعة المرحلة الحالية وما بداخلها من صعوبات صارخة أو صامتة، فالتعايش مع الأزمات لا يعني القبول بها، والتأقلم مع المشكلات الاقتصادية يشير إلى تفهّم أسبابها وليس إقرارا بالتكيف معها طوال الوقت.

قدّم الرئيس السيسي جرد حساب علني للكثير من الأزمات ونجح في تجاوز بعضها، ولا يزال يكافح في تخطي البعض الآخر، ولن يكون الصبر الشعبي مجديا ما لم تكن هناك قناعات كاملة بما يقوم به النظام من تحركات لعلاج المشكلات، وثقة بالسياسات الرامية لتحسين الأحوال، وهما سلاحان كفيلان بأن توقع فئة كبيرة من المواطنين شيكات على بياض لتحمّل الصعوبات، فبث الأمل والثقة بالمنهج والشعور بالتقدم من المقومات التي تدفع الشعوب إلى عدم الضجر من تحمّل الألم.

تحمّل المصريون آلاما أشد صعوبة مما يواجهونه اليوم، عندما خاضت الدولة حروبا قاسية في أوقات سابقة وظهرت براعة في التكاتف الاجتماعي والتلاحم السياسي ودعم غير محدود للمؤسسة العسكرية، ما يؤكد أن المعاناة ليست جديدة.

ولدى النظام الحاكم أنماط متباينة لقياس نبض الرأي العام ومعرفة أين تتجه البوصلة، من واقع خبرات وتجارب تمت دراستها للتعامل مع المصريين في حالات العسر، فهناك رهان على أن القدرة على التحمل مرتفعة، ورهان آخر أن دولا صديقة وحليفة لن تترك مصر تسقط ولو وصلت إلى حافة الهاوية الاقتصادية، وفي الاستثمارات التي تدفقت مؤخرا عبرة تضخ دماء جديدة لمن ضجوا من التأقلم مع الصعوبات.

8