عن الفلوجة.. والسرديات العنصرية

الخميس 2016/05/26

يتبنى بعض نشطاء الفيسبوك العراقي في منشوراتهم، عن حسن نيّة وبحرص منهم على المدنيين، فكرة أن سكان الفلوجة ينقسمون إلى “أغلبية” ضد داعش، و”أقلية” مؤيدة لداعش، وهو منطق من شأنه أن يفتح الباب للتنكيل بالمدينة وإبادتها تحت ذريعة استهداف “الأقلية الداعشية”. ثم إن فكرة الأقلية الداعشية هلامية جنائيا، وغير قابلة للقياس القانوني أو الواقعي؛ إذ كيف يستطيع ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي أو صحافيون أو محللون أن يحددوا من هو المواطن الفلوجي الذي يؤيد داعش وكيف يؤيدة، ومن هو الفلوجي الذي لا يؤيد داعش، وكيف يمكن التمييز بين الصنفين؟ يضاف إلى ذلك أن فكرة الأقلية الفلوجية الداعشية تبدو وكأنها تتماهى بشكل ما مع الشتائم العنصرية المذهبية التي تُكال للفلوجة وتحاكيها بطريقة مخففة تحاول أن تكون أكثر اعتدالا وإنسانية.

كما أن سردية الأقلية الداعشية في الفلوجة تتماهى وتتناغم مع السرديات العنصرية التي تربط “جينيا” و“جوهريا” بين النوع السني والفلوجي، وبين الإرهاب والتطرف؛ فهي وإن كانت ترفض تعميم وصمة الإرهاب على “جميع” أهالي الفلوجة؛ فإنها ضمنيا، ومن خلال اعتبار الإرهابيين جزءا من مجتمع المدينة أو أقلية سكانية فيها، تقول إن الفلوجة في أصلها وطبيعتها بيئة مساعدة على الإرهاب ومُنتِجة له؛ وهذا يؤدي إلى المآل الاستئصالي الذي نخشى منه على الفلوجة، ولا سيّما في ظل انعدام الثقة في الأجندة السياسية المصاحبة للعمليات العسكرية، والعجز الرهيب الذي يعاني منه الخطاب السياسي النخبوي العراقي، وإخفاق السلطة في بلورة رواية للواقع تتسامى وتترفع على النزعات العنصرية والإقصائية التي تنتشر في الفضاء العام بحجة أن الفلوجة مدينة آوت الإرهاب وصدّرته لبغداد والمحافظات الأخرى. الخطاب السياسي العراقي خطاب انتهازي مأزوم، ركيك ومضطرب، يفتقر للمصداقية بصورة فاضحة ويستثمر في الكراهية والأحقاد، ولا يستطيع التعالي على الطائفية أو الاصطدام بها. تشترك في ذلك النخب السنية والشيعية، قوى السلطة وقوى المعارضة.

الفلوجة بريئة بما هي مدينة. والسكان أبرياء بما هم سكان. النوع السني والنوع الفلوجي بريئان من الإرهاب ومن العمالة لتركيا أو لغيرها. بالضبط كما هو النوع الشيعي بريء من إرهاب الميليشيات ومن العمالة لإيران أو سواها. والإرهابي مدان بما هو إرهابي وليس لأنه سني. والمجرم الميليشيوي مجرم بما هو مجرم وليس لأنه شيعي. هل نحن بحاجة إلى تكرار هذا الكلام الذي يفترض أن يكون بديهيا وفطريا مع كل أزمة؟ هل نحتاج إلى إعادة اختراع عجلة المنطق والأخلاق مع كل حدث سياسي أو أمني؟ هل نحن بحاجة إلى اجترار قاعدة أجمعت عليها الشرائع والديانات والقوانين، هي أن المسؤولية فردية وأن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن مؤاخذة مجاميع سكانية بأفعال أفراد ينتمون إليها هو في حدّ ذاته منطق وسلوك إرهابي وتعده قوانين العصر جريمة حرب وإبادة جماعية وجريمة ضدّ الإنسانية؟ إلى متى تستمر مهزلة مكافحة الإرهاب بالإرهاب، وإصلاح الخطأ بالخطأ، ومعالجة الأزمة بالأزمة، والاتجار بالعداوات والاستثمار في مستنقعات الكراهية؟

إن أساليب مثل خلط الأوراق والخطاب الضبابي والمقاربة “الخصائصية” و“الجوهرانية” في تناول موضوعة الإرهاب والتي تربط، تصريحا أو تلميحا، بين جوهر الفلوجة الاجتماعي وخصائصها السنّية من جهة، وبين الإرهاب الناشئ والناشط فيها من جهة ثانية؛ كلها لا تعني غير وجود أزمة ذهنية وأخلاقية لدى مجتمع الساسة والنشطاء والمثقفين والصحافيين وصناع الرأي العام.

الأوضاع تتدهور بسبب عجز الأنتجلنسيا العراقية، أو طبقة المثقفين والمفكرين والأكاديميين والطبقة الوسطى المتعلمة، عن اتخاذ موقف جماعي حاسم وأخلاقي وصريح من قضايا التمييز العنصري والكراهية المذهبية التي أفرزها تاريخ من التشوّهات السياسية والاجتماعية وصراعات السلطة، ونقص الثقة بين العراقيين والارتياب الاجتماعي، وعززتها واستثمرت فيها نخب المحاصصة الطائفية والحرب الأهلية. وبالتالي تكون بصمة النخبة الثقافية شريكة في تفاقم الكارثة، ويكون سكوتها عونا على استمرار الخراب.

إن مستوى الخواء الثقافي والعدمية الأخلاقية أصبح لا يطاق، فأصبحنا في حاجة إلى التذكير بأبسط مبادئ الوعي السياسي والمسؤولية الاجتماعية واختراع عجلة الموضوعية مع كل كارثة إنسانية جديدة.

وبالمناسبة، إن المقاربة الأصولية الطائفية والجينية في التعامل مع الفلوجة من خلال اعتماد نظرية “فلوجة الإرهاب” الاستئصالية، سواء بصيغتها المُركّزة التي ترى “كل” أهل الفلوجة إرهابيين، أو المخففة التي ترى في الفلوجة “أقلية” إرهابية؛ هذه المقاربة المعيبة، إن سلمنا لها، يمكن أن تنطبق على المجتمع العراقي ككل، وعلى كل مجتمع ظهر فيه إرهابيون في الشرق أو الغرب؛ فالعراق الذي أنتج فلوجة إرهابية أو أقلية إرهابية فيها هو إرهابي أيضا، ويشكّل وفق هذه المقاربة المأزومة، في جوهره وبطبيعته وجيناته وخصائصه، بيئة مساعدة على الإرهاب، وبذلك تكون أيضا كل محافظات العراق وأقضيته ونواحيه وعشائره وقومياته وإثنياته “إرهابية” أيضا. أولئك الذين يشتمون عراقيي الفلوجة إنما يشتمون أنفسهم. بالضبط كمن يسبّ نفسه ذلك الذي يسبّ عراقيي البصرة أو العمارة أو كربلاء أو الموصل أو الديوانية. الطاعن في مواطنيه طاعن في نفسه. واللاعن شعبه كلاعن ذاته.

إن الخطاب الأخلاقي الذي تحتاجه المجتمعات في أزماتها هو الذي يستطيع مقاربة الصراعات بطريقة تعزل كل السرديات التي تحاول أن تربط بين “النوع” السكاني و”أفعال” الأشخاص ربطا جينيا وجوهريا وكأن السنة إرهابيون بالفطرة، أو الشيعة أشرار بالطبيعة أو بالسليقة. كما إن فكرة “عدم التعميم” على كل السنّة أو كل الشيعة التي نرددها عن حسن نية هي أيضا لا تخلو من أزمة ومأزق، فهي لا تمنع من تكريس سردية وصمٍ وإقصاء مفادهما أن البيئة السنّية أو البيئة الشيعية هي بيئة بذاتها و”بطبيعتها” مساعدة على الشر والتطرف والإرهاب؛ لأن الإشكالية الأساسية تكمن في مقاربة قضايا التطرف والجريمة والإرهاب من زاوية “هوياتية”، الأمر الذي يستدعي أن تتجه الجهود السياسية والإعلامية والتنظيرية والفكرية والمعرفية إلى فكّ الارتباط بصورة نهائية بين هوية الفرد وسلوكه، وهو أمر صعب جدا في لحظة استثمار السلطة السياسية والدينية في حرب الهويات.

إن ما تحتاجه الفلوجة اليوم من المثقف الشيعي تحديدا هو التوقف عن التعامل معها من منطلق أنه شيعي وأنها سنّية، وإنما انطلاقا من كونه مثقفا وإنسانا يدافع عنها ويقدّم لها المساعدة منسجما مع وعيه وإنسانيته واستشعاره للمسؤولية الأخلاقية العابرة للهويات. لا تحتاج الفلوجة اليوم إلى كسرة خبز أو حبة دواء بقدر حاجتها إلى يد تقدم لها الخبز والإغاثة من منطلقات أخلاقية صريحة وحاسمة، لا لبس فيها ولا منَّ ولا أذى. تحتاج الفلوجة إلى وقفة المثقف الشيعي الأخلاقية التي تعيد رسم خارطة الصراع لصالح قيم أسمى ومبادئ أعلى، لا أن يخاطبها بمنطق أنه يرفض قصفها عشوائيا وقتل أطفالها رغم أنه شيعي مظلوم “جوهريا”، وأن الفلوجة سنّة ظالمون “جينيا”. مثل هذا المنطق سيعمّق جراح الجميع، السنة والشيعة، لأنه ينتمي إلى ثقافة الصراع والطائفية ولا يعارضهما، فثمّة دعوات أخلاقية كريمة من بعض الأصدقاء تناشد العراقي الشيعي مساعدة الفلوجة؛ لكنها تشجعه على ذلك بتذكيره بمظلوميته المذهبية ومطالبته بأن “لا يتخلّق بأخلاق ظالميه”، وهي لغة تكرّس سردية الشيعي “المظلوم” الذي يفترض أن ينسجم مع أخلاقيات “هويته” الاجتماعية والمذهبية فيرحم “عدوّه” السني “الظالم” الذي ظلمه تاريخيا وأن لا يقتدي به في الظلم.

وبالتالي سنبقى ندور في دوامة الظالم والمظلوم لأننا نستخدم لغة ومنطقا يرسّخان سرديات المظلومية والعداوة والتمايز الهوياتي، وليس في أي منها ما يساعد على رؤية الضوء في نهاية النفق. ولست أنكر مظلومية العراقيين الشيعة بالأمس واليوم، بل أقرّ بها وأعترف، ولست في ذلك متفضلا على أي عراقي أو عراقية؛ ولكنني أستنكر استدعاء المظلومية الفئوية سياسيا وسلطويا لتغذية وتكريس مظلومية أوسع ومحرقة أكبر تأكل كل العراقيين والعراقيات، فلا تبقي ولا تذر.

تكتسب الرحمة شرعيتها من كونها رحمة، ورحمة فقط. الرحمة لا هوية لها. علينا أن نرحم بعضنا من دون استدعاء التاريخ والقضايا الهوياتية وتراث التمييز العنصري في العراق. الرحمة نقيض العنصرية. والتذكير بآلام الماضي والاختلافات الهوياتية في لحظة مدّ يد الرحمة يفرغ الرحمة من مضمونها ويحوّلها إلى من وأذى وتجريح. إن وظيفة المثقف العضوي الاجتماعية هي مساعدة الناس على الخروج من خنادقهم ومغادرة شعور المظلومية والانسحاق، والتحرر من إرث التمييز والكراهية، والتغلّب على مآسي الماضي والحاضر، لا تكريس الشعور بالتمايز والاضطهاد والدونية لديهم. إن الكراهية الصريحة أهون وأقل خطرا من تسامح ينطلق من ذاتية مذهبية مفرطة وتكريس للانقسام واستدعاء للمظلومية.

تتورط الطبقة المثقفة اليوم في توفير غطاء الشرعية لما تقوم به السلطة من ارتكابات وخطايا في إطار السياسة والأمن؛ إذ يُلبس المثقفون الطائفية ثوبا أخلاقيا ويُضفون الطابع الثقافي على العنصرية، عبر أساليبهم في التنظير الذي يتملّق للانفعالات الشعبوية والأجندات الحزبية وأيديولوجيات التفتيت، الأمر الذي من شأنه أن يقضي على مستقبل المجتمع، ويجعل الطريق إلى الحياة الطبيعية أكثر صعوبة وقسوة.

كاتب عراقي مقيم في لندن

8