عن أزمة الفلسطينيين وبمناسبة مبادرة "شلح"

الاثنين 2016/10/31

اعتاد الفلسطينيون على مفاهيم كثيرة جرى ترويجها في الزمن الفصائلي من دون أي تفحّص أو تمعّن في دلالاتها، بحكم احتلال هذه الفصائل للفضاء العام للفلسطينيين وهيمنتها على خطاباتهم، وبسبب ضعف تبلور الطبقة الوسطى وتدني قدرة المجتمع المدني على التعبير عن ذاته أو فرز ممثليه الخاصين.

هكذا راجت مفـاهيم مثل الوحـدة الوطنية، التي لا تعني إلا وحدة الفصائل أو البعض من الفصائل مع بعضها، وكأن الشعب الفلسطيني غير متوحد، أو أنه لا يتوحد إذا كان ثمة فصيل لا يعجبه فصيل آخر. ويأتي ضمن ذلك مفهوم الكفاح المسلح، والقضية المركزية، والصراع على الوجود، والنصر أو الشهادة، وهويتي بندقيتي، واللقاء في أرض المعـركة، والقـرار الفلسطيني المستقل، وغيرها، وكلها مفاهيم تحتاج إلى توضيح أو تحديد في حين أنها باتت من الرطانة السائدة في الساحة الفلسطينية، كأنها بديهيات ينبغي التسليم بها لا مناقشتها وبلورتها أو نقدها ومساءلتها.

في هذا الإطار صار أي كلام يصدر عن مسؤول ما في فصيل ما، مهما كان حجمه أو دوره، يقال له سياسة في حين أنه في الحقيقة مجرد إنشاء سياسي، وهكذا صار أي كلام، أيضا، يقول صاحبه إنه مبادرة، لا سيما إذا كان أمينا عاما، كي يتم التعامل معه على هذا الأساس، من دون التمعّن في فحوى مبادرته أو إمكانياتها.

مناسبة هذه المقدمة الحديث الصادر عن “مبادرة” أطلقها رمضان عبدالله شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، (يوم 22 أكتوبر)، وهو واحد من حوالي 15 أمينا عاما في الساحة الفلسطينية. اللافت أن مبادرة “شلح” تتألف من عشر نقاط ما يذكّر بالنقاط العشر التي شكلت ما يعرف بالبرنامج المرحلي الفلسطيني، أو برنامج إقامة السلطة الوطنية في أي أرض يجري تحريرها (في الدورة 12 للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1974)، والذي كان أسس للخلاف والشقاق السياسي بين الفلسطينيين، في حينه، بين دعاة التسوية والمفاوضة، ودعاة الثورة والكفاح المسلح؛ وهو ما أفضى وبرّر لاحقا إلى عقد اتفاق أوسلو (1993).

اللافت، أيضا، أن العديد من الفصائل رحبت بهذه المبادرة، لمجرد أن فصيلا آخر طرحها، وتأتي ضمن ذلك حركة “حماس” والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب (اليساريان)، وكأن الفصائل في ذلك تتواطأ في ما بينها على تعزيز هيمنتها وفرض خطاباتها، التي تشكل جزءا من سلطة الفصائل على شعبها.

إذا عدنا للنقاط تمكن بسهولة ملاحظة أنها يمكن أن تتألف من أربع أو خمس نقاط، كما يمكن أن تكون إحدى عشرة أو ثلاثة عشرة نقطة، بمعنى أن لا أحد يعرف لماذا هي عشر نقاط، فقط هذا من جهة الشكل، أي باعتبار غلبة الصياغة الإنشائية على الصياغة السياسية في نص “المبادرة” المذكورة.

أما من حيث المضمون فثمة مغالطة كبيرة في اعتبار “المبادرة” أن مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية تكمن فقط في عقد اتفاق أوسلو وفي الاعتراف بإسرائيل وبالانقسام، وغياب البرنامج والافتقاد لحوار وطني وضعف الاتصال بالأطراف العربية والإسلامية. وأيضا، ثمة تعجيز كبير في الادّعاء بأن معضلة الفلسطينيين يمكن حلها بمجرد اجتماع البعض من القياديين للقول بإعادة بناء منظمة التحرير، وإعادة الاعتبار للمقاومة، وشن انتفاضة شاملة وملاحقة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية.

القصد أن هذا الكلام كله، على أهميته، مجرد إنشاء لا يقدم ولا يؤخّر، لا سيما في ظروف خراب المشرق العربي، كما أنه لم يقدم ولم يؤخر في ظروف ما قبل “الربيع العربي”، بما له وما عليه، هذا أولا.

ثانيا، ينم هذا الكلام عن سذاجة سياسية أو عن تضليل، فالحركة الوطنية الفلسطينية بفصائلها وكياناتها، ومن ضمنها منظمة التحرير، باتت متآكلة وأفل دورها، سواء إزاء شعبها أو إزاء صراعها مع عدوها، إن بحكم انتهاء زمنها أو بحكم تغير الظروف العربية والدولية التي أسهمت في صعودها، أو بحكم عجزها عن تجديد حيويتها وأهليتها الكفاحية.

ثالثا، مشكلة الفصائل الفلسطينية تكمن في اعتمادها على الخارج بدلا من اعتمادها على شعبها، ومن ضمنه تبعية حركة الجهاد لإيران مثلا، فما وزن هذه الحركة أو غيرها من دون الاعتماد على هذه الدولة أو تلك في مواردها وكسب شرعيتها وتعزيز نفوذها؟ وأقصد أن الكثير من الفصائل لم يعد لها أي مبرر للوجود، فما معنى وجود حركتين إسلاميتين، كحماس والجهاد، وما هي الفوارق الفكرية بينهما؟ أو هل هذه الفوارق تحول دون اندماجهما في حركة واحدة؟ وهذا يشمل الفصائل الأخرى التي لم يعد لها من الوجود إلا الاسم والبعض من التاريخ والموارد.

رابعا، مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية تكمن في غياب استراتيجية كفاحية مدروسة توازن بين الإمكانيات والشعارات وبين الواقع والرغبات.

خامسا، تكمن مشكلة هذه الحركة بكل كياناتها أيضا في غياب طابعها التمثيلي والمؤسسي والديمقراطي، وإبقـائها حكرا على طبقة سيـاسية معينة تجدد لنفسها، في حين تبدو الصلة بينها وبين شعبها تتسم بالعديد من الفجوات التي تتسع باستمرار.

سادسا، تكمن مشكلة الفلسطينيين في أن حركتهم الوطنية تحولت من حركة تحرر إلى سلطة، في الضفة وفي غزة، قبل إنهاء الاحتلال بل وفرض عليها التعايش مع الاحتلال.

وبكلام أكثر تفصيلا، بخصوص ما سمّي بالمبادرة، جيد القول بإلغاء اتفاق أوسلو، لكن ذلك يطرح تساؤلا، ماذا عن مصير الكيان الفلسطيني القائم؟ وهل الأجدى التخلص منه أم تطويره وتغيير وظائفه؟ ومن ناحية أخرى، ما هو البديل عن اتفاق أوسلو؟ أو هل بإمكان الفلسطينيين في ظل خراب المشرق العربي وتغول نفوذ إيران، الحديث عن الكفاح المسلح فعلا لا قولا؟ ثم إذا ألغي الاتفاق ماذا عن مصير حوالي ربع مليون فلسطيني يعيشون مع عائلاتهم على الموارد المتأتية من الدول المانحة، وهذا يشمل موازنات الفصائل ومنتسبيها؟ أقصد أن إطلاق فكرة صحيحة أو شعار مشروع يحتاج إلى غير مجرد الكلام، أي إلى إمكانيات وإلى توفر مشروع وطني بديل، كما يحتاج إلى إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية بخطاباتها وبناها وأشكال عملها، وهذا يخص الفصائل والسلطة والمنظمة. أخيرا هذا الكلام يخص مبادرة شلح، ومبادرات غيره، مع التقدير للنوايا الطيبة.

كاتب سياسي فلسطيني

8