عندما تتقمص الغيلان أدوار الحملان في نظام الغاب العالمي

كيف يمكن لرؤساء فتكوا بشعوبهم ودمروا بلدانهم ومزقوها وعاثوا في المنطقة خرابا وفسادا أن يحضروا مؤتمرا لأجل مؤازرة الفلسطينيين.
السبت 2023/12/02
تجار القضية الفلسطينية

حضور بشار الأسد وإبراهيم رئيسي ورجب طيب أردوغان أعمال القمة العربية الإسلامية الاستثنائية الأخيرة التي التئمت في الرياض بشأن مأساة غزة دليل إضافي آخر يضاف إلى الآلاف من الأدلة الأخرى المتراكمة والمتكدسة عبر التاريخ والحاضر على بشاعة وقبح ما يسمى ظلما بالنظام العالمي. هذا النظام الذي هو في جوهره “اللا نظام العالمي أو نظام الفوضى الدولي أو نظام الغاب الدولي” الذي يسحق فيه القوي الضعيف، ليس لأن القوي على حق والضعيف على باطل، وإنما ببساطة لأن القوي يستطيع قهر الضعيف وفق قانون الغاب.

والسبب أولا: لأن القوي أقوى من الضعيف بدنيا (عسكريا)، وثانيا: لأنه ليس هناك من مؤازر أو مغيث للضعيف المظلوم، وكل المناصرة تصدر لصالح القوي الظالم من الظالمين أمثاله الذين يعج بهم نظام الغاب العالمي ويقودونه.

وهذا الاستنتاج الطاغي السوداوي لا يخص فقط اللا نظام الدولي أو نظام الغاب الدولي الراهن الذي نعيشه ونذوق مظالمه، وإنما يسري على جميع مراحل تاريخ البشرية المؤرخة وغير المؤرخة وإن اختلفت الصور والمشاهد والشواهد والنماذج.

والسبب وراء هذا الاستنتاج الذي يؤيده الملايين من المحكومين والمتأثرين بشكل مباشر وغير مباشر من قبل هؤلاء الطغاة الثلاثة هو ما اقترفوه أولا بحق شعوبهم وبحق بقية شعوب المنطقة، وذلك عن طريق الحكم المطلق المستبد داخليا وعن طريق التدخل العسكري والسياسي المباشر في شؤون الجوار والمنطقة وإحداث القلاقل والفوضى عن طريق الأذرع لتقوية ركائز بقاءهم ومن ثم الجنوح نحو الهيمنة. وثانيا، بسبب ما ألحقته هذه الدول الثلاث تاريخيا وراهنا من أذى وضرر ميداني وسياسي بالقضية الفلسطينية ولاسيما نظام الأسد في عهدي حافظ وبشار.

حجم ونوعية البلاء الذي عانوه الفلسطينيون تاريخيا من النظام السوري يضاهيان لا بل ويفوقان أحيانا ما كابدوه من إسرائيل نفسها

كيف يمكن لرؤساء فتكوا بشعوبهم ودمروا بلدانهم ومزقوها وعاثوا في المنطقة خرابا وفسادا أن يحضروا مؤتمرا لأجل مؤازرة الفلسطينيين المنكوبين في غزة الذين أخذتهم آلة الحرب الإسرائيلية بجريرة حركة حماس الإخوانية. كيف يمكن لرؤساء، ما زالت أياديهم ملطخة بدماء الأبرياء من شعوبهم وما زالت أنقاض المدن والبلدات التي دكوها فوق رؤوس قاطنيها ماثلة للعيان، حضور مؤتمر لمناصرة المنكوبين في غزة وهم تسببوا في النكبات التي ابتليت بها بلدانهم وشعوبهم؟

بشار الأسد الذي قتل مئات الآلاف من شعبه بمعية روسيا وإيران وحزب الله اللبناني الإيراني والعشرات من الميليشيات الشيعية الأخرى وحوّل العشرات من المدن والبلدات إلى أثر بعد عين، وشرّد أكثر من نصف سكان بلده المنكوب خارجيا وداخليا يتم استقباله استقبال الأبطال في المؤتمر ويلقي كلمة يتحدث فيها عن الشراسة الإسرائيلية وكأنه حمل وديع لم يرتكب أي جريمة بحق شعبه بعد أن تمت تبرئته وإعادة تأهيله من قبل النظام الإقليمي العربي والإسلامي الذي هو صورة مصغرة عن النظام العالمي المشوه بنسختيه القديم والجديد.

وإذا تعمقنا قليلا في سياسة الأسدين الأب والابن حيال الفلسطينيين، فسنكتشف سريعا أن حجم ونوعية البلاء الذي عانوه الفلسطينيون تاريخيا من النظام السوري يضاهيان لا بل ويفوقان أحيانا ما كابدوه من إسرائيل نفسها.

والهدف من هذه العجالة ليس الدفاع عن الفلسطينيين وتبرير جميع سياساتهم وكافة أساليبهم وأدواتهم النضالية التي لا أتفق مع الكثير منها، وإنما تبيان نفاق نظام الأسد في تعاطيه مع القضية الفلسطينية حيث كان نظريا يظهر نفسه بالمدافع عن الفلسطينيين، بينما كان عمليا يحاربهم ويزرع بذور الشقاق فيما بينهم ويتأمر عليهم بالتنسيق مع الآخرين.

نظام الأسد الأب ساعد إسرائيل في اجتياح لبنان سنة 1982 بعد الانسحاب المتعمد والمشبوه من مناطق جزين

في سنة 1970 أمر حافظ الأسد الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس نورالدين الأتاسي، بانسحاب القوات السورية التي أرسلها الأتاسي وصلاح جديد لمؤازرة المسلحين الفلسطينيين في مواجهاتهم ضد الجيش الأردني، الأمر الذي ساهم في تقهقر الفلسطينيين بسرعة. وكان الأسد السبب الرئيسي في إيقاف العمل الفلسطيني المسلح انطلاقا من الجولان بعد هزيمة 1967 من خلال مسؤوليته الشخصية عن تلك الهزيمة، وهذا ما أكده كل من الأتاسي وجديد وغيرهما من المؤرخين والمعاصرين لتلك الحقبة.

وفي أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 قامت القوات السورية باجتياح لبنان واحتلاله تحت مسمى “قوات الردع العربية”. ومنذ ذلك الحين انحاز الأسد عمليا ضد الفلسطينيين على الأصعدة السياسية والعسكرية والمدنية. وقد ساعد الجيش السوري كل من الكتائب اللبنانية بزعامة بيير الجميل وبقية الفصائل المسيحية المارونية في ارتكاب أبشع المجازر ضد الفلسطينيين العزل في مخيم تل الزعتر على الرغم من رضوخ المسلحين الفلسطينيين للتوقيع على اتفاق استسلام وخروج آمن من المخيم بعد إلقاء أسلحتهم، عندما قامت الكتائب وغيرها وبالتنسيق مع القوات السورية بالنكوص عن الاتفاقات الموقعة وقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين العزل. وكان الهدف المشترك بين المارونية السياسية اللبنانية ونظام الأسد هو إضعاف الفلسطينيين وإهانتهم وإذلالهم وإرغامهم على التعامل كتابعين مع نظام الأسد كملاذ وحيد لهم لئلا يتحولوا إلى موالين للأنظمة العربية الأخرى التي كانت على خصام مع نظام الأسد.

كما ساعد نظام الأسد الأب إسرائيل في اجتياح لبنان سنة 1982 بعد الانسحاب المتعمد والمشبوه من مناطق جزين، الخطوة التي ساعدت إسرائيل في الوصول بسرعة إلى العاصمة بيروت. وكرر الأسد فعل نفس الشيء في الجنوب والبقاع الغربي، الأمر الذي سمح لإسرائيل بحصار النقاط المسلحة التابعة للفلسطينيين والمقاومة اللبنانية على حد سواء. وفي يونيو 1982 وقّع نظام الأسد وبرعاية أميركية هدنة منفردة مع تل أبيب وبقي الفلسطينيون يقاومون لوحدهم مدة ثلاثة أشهر قبل مغادرة لبنان. وفي عام 1983 عمد نظام الأسد إلى زرع بذور الشقاق الأولى داخل حركة فتح في الوقت الذي أوعز فيه إلى حركة أمل اللبنانية الشيعية باقتحام المخيمات الفلسطينية في بيروت والجنوب لكسر شوكة الفلسطينيين عموما ومنظمة التحرير الفلسطينية خصوصا.

من أسهل الأمور في ظل نظام الغاب العالمي الذي نعاصره ونذوق مرغمين مراراته هو ارتكاب القادة أبشع الجرائم بحق شعوبها والشعوب الأخرى والإفلات بكل بساطة من العقاب

وتفاقمت معاناة الفلسطينيين في سوريا في ظل حكم الأسد الابن بعد مشاركة بعض الفلسطينيين في مخيم اليرموك في مظاهرات ضد نظام بشار الأسد في أعقاب أزمة 2011 وتم التنكيل بهم حيث تم قتل البعض واعتقال الآلاف منهم. ولم يكن يتم الإفراج عنهم إلا بعد انتمائهم إلى منظمة أحمد جبريل وفتح الانتفاضة المواليتين للنظام السوري. وقد تم قصف المخيم بالطائرات من قبل قوات الأسد وارتكاب المجازر بحق المناوئين وحدوث نزوح جماعي من المخيم بحجة محاربة تنظيم داعش.

نفس فصول النفاق وازدواجية المعايير تنطبق على الرئيسين التركي والإيراني في هذا المضمار. فأردوغان يذرف دموع التماسيح على أهل غزة المنكوبين ويدعو العالم أجمع إلى تبني حل الدولتين، ويتناسى أنه يمنع الكُرد في شمال وجنوب وغرب كردستان الذين يزيد عددهم على الفلسطينيين أضعافا مضاعفة من التمتع بحقوقهم الأساسية المشروعة ناهيك عن الاستقلال، ويحاربهم بالحديد والنار لتقويض إنجازاتهم وإخماد جذوة النضال في نفوسهم. هذا بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستخباراتية المتميزة بين أنقرة وتل أبيب التي يشكل ابن أردوغان شخصيا إحدى ركائزها. وبالمناسبة تعتبر تركيا أول دولة إسلامية اعترفت بدولة إسرائيل سنة 1949.

والرئيس الإيراني يتباكى على الفلسطينيين وحقوقهم ويتناسى أن نظام ولاية الفقيه الذي يترأسه قد فتك بالآلاف من خيرة الشباب في إيران فقط لأنهم طالبوا ببعض الحريات والحقوق. فضلا عن أن نظام الملالي يضطهد الملايين من الكُرد والعرب والآذريين والتركمان والبلوش وغيرهم في إيران ويحرمهم من أبسط حقوقهم. هذا ما عدا التخريب الممنهج في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها عن طريق الوكلاء والبيادق، وكل ذلك يخدم عمليا أجندات الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل.

من أسهل الأمور في ظل نظام الغاب العالمي الذي نعاصره ونذوق مرغمين مراراته هو ارتكاب القادة أبشع الجرائم بحق شعوبها والشعوب الأخرى والإفلات بكل بساطة من العقاب. نظام الغاب العالمي هذا يقوم على تبرئة القتلة وتجريم الأبرياء. فعندما يتم استقبال هؤلاء الطغاة الثلاثة بالحفاوة والتكريم ويسمح لهم بإلقاء الكلمات الرنانة والشعارات المزيفة، فهذا يعني ضمن ما يعنيه بأن ما يسمى زورا وبهتانا بالنظام الدولي قد برأهم جميعا من إراقة الدماء التي سفكوها بحق شعوبهم ومنحهم صكوك البراءة من كل الجرائم التي اقترفوها ضد أوطانهم. فكل رئيس وقائد مجرم يستطيع الإفلات بسهولة من العقاب في ظل قانون الغاب الدولي الراهن المفروض على البشرية والذي يهدف كما يقول نعوم تشومسكي إلى “السيطرة على الشعوب” لا خدمتها.

6