عندما تتحول النعم إلى نقم.. إنها تونس
اجتاحت البلاد التونسية هذه الأيام موجة من البرد مصحوبة بتساقط لكميات هامة من الثلوج. الثلج يغطي كل شيء ويكسبه لون الصفاء ببياضه الواضح والنقي. لكن الثلوج التي تساقطت في تونس كشفت عورات وحقائق كثيرة وصبغت قلوب الكثير من التونسيين بلون السواد حزنا على ما آلت إليه بلادهم وما آلت إليه أوضاع الكثير من العائلات خاصة الفقيرة والقاطنة في أكواخ وشبه منازل بالأرياف.
طفلة التسع سنوات رانيا بريئة ومليئة أملا وحبا للحياة، قتلتها موجة البرد في أول أيامها في كوخ عائلتها بأحد أرياف مدينة عين دراهم من محافظة جندوبة في الشمال الغربي. عائلات في العديد من القرى عزلت عن محيطها بسبب انغلاق الطرقات. نساء حوامل ومسنون ورضع وأطفال ومرضى وجدوا أنفسهم في مواجهة متاعب صحية مضاعفة بسبب معاناة البرد والعزلة وانتهاء المؤونة مع غياب أدوات التدفئة لمواجهة البرد القارص. طرقات وبنية تحتية أقل ما يقال عنها إن وجدت فإنها قديمة أو تحتضر.
هذا بعض من الأشياء التي حولت بياض الثلج إلى سواد في وجدان التونسيين الذين أظهروا كالمعتاد استعدادهم للتضامن مع العائلات التي تستحق المساعدة. شخصيا ما أشعرني بالحزن هو معاناة أناس يعيشون في مدن أجمل ما فيها طبيعتها ومناخها لكنها تحولت من نعمة إلى نقمة وفي مناطق تقوم على الزراعة حيث تعتبر الأمطار والثلوج نعمة وبركة فإذا بها تتحول إلى نقمة هي الأخرى.
مناطق الشمال الغربي في تونس من أجمل المناطق في البلاد وهي تعد وجهة للمتعة والسياحة الداخلية والخارجية في هذا الموسم من العام فهي مناطق تزداد جمالا وجاذبية في الشتاء. وها هي تتحول إلى مناطق منكوبة ويزداد وضعها سواء من شتاء إلى آخر. أسرة رانيا بكت ابنتها وقالت إن فقرها المدقع هو الذي جعلها تخسرها، وكذلك التونسيون فقد بكوها وتحسروا على موتها في مواقع التواصل الاجتماعي. الجميع وجه التهمة للفقر وللحكومات المتعاقبة على الدولة.
حكومات أهملت ثروات هذه المناطق وتسترت على الفقر وتجاهلت مآسي العائلات الفقيرة طيلة العقود الماضية. حكومات تناست ما لديها من ثروات طبيعية وبشرية وهرولت نحو الاقتراض وذرّ الرماد في العيون بالوعود الكاذبة وأبدع أصحاب المناصب والقرار ورجال السياسة في الخطب الرنانة كما أبدعوا في نهب أموال الشعب والدولة.
ما ذنب رانيا الزهرة التي مازالت تتفتح فخسرت حياتها. وما ذنب هاجر التي ولدت في الطريق إلى المستشفى وسط الثلوج وأوشكت على الوفاة. وما هذه الدولة التي يتم فيها وأد الطفولة بسبب الإهمال والفقر. أراها ببساطة دولة اعتمدت على حكومات فاشلة على جميع الأصعدة قبل الثورة وبعدها ولم تتعلم أيّ واحدة منها الدرس من سابقاتها ولم تتعلم احترام مواطنيها ولا حتى نفسها طالما تهدر وتهمل ثرواتها وتسارع إلى مدّ الأيادي لباقي الدول.
ربما يبدو للكثيرين أنني أحمّل الدولة والحكومات أكثر من ذنبها، لكن الفقر المتوارث لدى أهالي هذه المناطق طيلة عقود لم يمنحهم الفرصة لرفع رؤوسهم وحال دون طموحات الكثير منهم في الارتقاء بأوضاعهم المادية والاقتصادية. والسؤال المطروح هنا كيف للعائلات المقيمة في هذه المناطق أن تواصل حياتها وهي تعيش تحت وطأة الخوف من الغد ومن الشتاء ومن الفقر ومن انسداد الأفق؟
المؤسف أن أغلب الأسر في هذه المناطق تكون كثيرة الأبناء، ويرجح البعض أن ذلك يرجع أيضا للفقر وما خلفه من أمية ونقص في الوعي -لدى النساء خاصة- بضرورة اللجوء إلى وسائل التنظيم العائلي للحد من كثرة الولادات. في حين يرى آخرون أن سكان القرى والأرياف عموما يفضلون العائلة كثيرة العدد لأنهم يأملون في أن يساعدهم الأبناء في العمل الزراعي أو في توفير مورد إضافي لباقي الأسرة. ومهما اختلفت الأسباب فالنتيجة واحدة لأن واقعنا اليومي يثبت لنا صحة هذه النظرية، فالعائلات الأفقر هي التي تنجب عددا أكبر من الأبناء.
هذا ما أعيبه على الآباء والأمهات الذين بدورهم حولوا نعمة الإنجاب إلى نقمة أيضا. فطالما أنهم واعون بفقرهم وبأن لا إمكانيات مادية لديهم حاليا ولا في المستقبل لتغطية نفقات الكثير من الأبناء، لماذا ينجبون أكثر من طفل وطفلين؟ لماذا يكرر أغلبهم نفس سيناريو حياته المليئة بمشاعر الحرمان مع أبنائه؟ برأيي حريّ بالآباء والأمهات متواضعي الإمكانيات والموارد المالية أن يفكروا مليا قبل اتخاذ قرار إنجاب أبناء يذيقونهم ألوان الخصاصة والحرمان خاصة في ظل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة في تونس اليوم والتي لا تبشّر بخير.
صحافية من تونس