عندما أصبح الوطن يستجدي الأغنية

انتظرنا رؤية الساهر بين أهله وشعبه لكن الانتظار تبخّر عندما أعلنت صافرة الحكم بدء المُباراة. ولكن في كُل الأحوال كانت الصافرة ستعلن افتتاح خليجي البصرة حضر الساهر أم لم يحضر.
السبت 2023/01/14
لم يعد ذلك الوطن

بين الحضور والغياب وفي حنايا لهفة الشعب لمُشاهدته، ظلّتْ الفوضى تكتنف الموقف فيما إذا كان الفنان كاظم الساهر سيحضر حفل افتتاح خليجي البصرة أم لا؟

ومِن تأكيد إلى نفي ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي وتنوّعت مصادر المواقع الإخبارية وحضر جمهور حاشد إلى مُدرّجات ملعب النخلة في البصرة بأمنيات أن يروا فنانهم وهو يتغنّى ببلده ووطنه.

ظلّتْ الأنظار تتّجه باتجاه بوابات الملعب لِدخول الساهر، لكن ما إن بدأت الدقائق تقترب من إعلان بداية الحفل الكروي ونزول الفنانين رحمة رياض وحُسام الرسام لأداء أغاني افتتاحية البطولة حتى يئس الجمهور من حضور أبووسام.

في كُل الأحوال كانت الصافرة ستُطلق افتتاح خليجي البصرة سواء حضر الساهر أم لم يحضر… وتلك هي سُنّة الحياة في الوطن

تعدّدت وكثُرت الأسباب حتى أن البعض وظّف مُدوناته للتبرير أو اللعن، فمِنهم من قال “إن الساهر طلب مبلغاً خياليّاً يُقدّر بثلاثة ملايين دولار وطائرة خاصة تقلّه وفريقه المُرافق ذِهاباً وإياباً وبضمنهم طبيبه الخاص”. وآخرين اعتقدوا أنه مُتخوّف على حياته من الوضع الأمني المُرتبك في البلد خصوصاً وأنَّ الساهر كانت تربطه علاقات وطيدة برموز النظام السابق ومنهم عُدي صدام حسين كما يُحب أن يتفيقه هذا البعض.

فيما اعتقد فريق آخر أن الفنان الساهر قد ترك وطنه بلا رجعة.

أقسى وأصعب أنواع الاستجداء أنْ تجد وطناً يتسوّل من أبنائه الكلمة، تماماً مثل صورة رجل كهل وهو يَمُدّ يده من أجل أن يضع له أبناؤه ما يجود به كرمهم.

ربما ذاكرة شعب العراق ليست بتلك الدرجة من الزهايمر لينسوا ذِكريات مهرجان بابل الذي كان يصدح في الثمانينات بالفِرق العربية والأجنبية على مُدرّجات مدينة بابل الأثريّة، يُرافقهم أغلب المُطربين العرب والأجانب، في ذلك الوقت كان مهرجان المربد يبدأ من حيث انتهت فعاليات بابل الذي تصدح فيه حناجر شُعراء وأُدباء العرب ومن ينتمون إلى الجامعة العربية.

وقبلها كان العراق المسرح الذي غنّتْ فيه كوكب الشرق أم كلثوم وفيروز، وصَدَح على مسارحه صوت التونسي لُطفي بوشناق ورباب الكويتية وأمينة فاخت والكثير من جواهر الأصوات.

حتى في أصعب أيامه وزمانه حين كان الحِصار يقتطع من حياته وأحلامه وأرزاقه، كانت مسارح بغداد تستقبل الفنان عادل إمام والمُخرج صلاح أبوسيف والكثير من الفنانين الذين تحطّ طائراتهم في مطار بغداد الدولي.

لكن اليوم كاظم الساهر لم يحضر إلى حفل خليجي البصرة، ربما لأنه لم يَعُد ذلك الوطن الذي يعترف به أبووسام. هل نلوم السياسة أو السياسيين أو حتى نزعل على كاظم؟ ربما الجميع مُتواطئ في المؤامرة.

السياسة في الوطن قتلتْ الفن وامتدت يدها الآثمة إلى الرياضة بحيث لم تترك للحياة باباً تدخله إلاّ وأغلقته

السياسة في الوطن قتلتْ الفن وامتدت يدها الآثمة إلى الرياضة بحيث لم تترك للحياة باباً تدخله إلاّ وأغلقته.

قد تكون حكاية أم كلثوم مرّت على ذاكرة سفير الأغنية العراقية ويتذكر منها أن سيدة الغناء العربي وبعد نكسة حزيران (يونيو) 1967 واجهت الاتهامات بسبب أغانيها الغارقة بالحب والاشتياق والولع الذي اعتقده البعض مُخدِراً تسبب في الهزيمة، مما دفعها للتفكير بالاعتزال لكنها لم تلبث أن تراجعت عن قرارها وتسابقت مع الفنانين لإحياء الحفلات الغنائية خارج مصر وجمع التبرعات للمجهود الحربي تحت شعار “الفن من أجل المجهود الحربي” حينها كانت الأغنية تُسابق الوطنية والانتماء، وشتّان ما بين الزمنين.

كان للساهر أن يكون صوت العراق الذي باسمه يُصافح ضيوف البلد، وفي مُقدمة مُستقبليهم ويتباهى الشعب بولده البار، لا أن يكون نكسة عليه.

ترقبّنا وانتظرنا حتى امتلأ الوجدان شوقاً لِرؤية الساهر بين أهله وشعبه، لكن الانتظار تبخّر عندما أعلنت صافرة الحكم بدء المُباراة.

أبووسام ليتك كُنت معنا لنقول للضيوف إن الأبناء لا ينسون وطنهم الذي علّمهم وهم أطفال معنى السُلّم الموسيقي (دو ري مي…) قد تكون لك أسبابك في عدم الحضور، من يدري.

في كُل الأحوال كانت الصافرة ستُطلق افتتاح خليجي البصرة سواء حضر الساهر أم لم يحضر… وتلك هي سُنّة الحياة في الوطن.

9