عميد الأدب العربي.. الناقد المعنف والشيخ العاشق والحاج طه

قرابة نصف قرن مرت على رحيل عميد الأدب العربي طه حسين، ولكن هجمات أصحاب الأفكار الأحادية التي واجهها طيلة حياته، لم تتراجع حتى بعد رحيله. اتهامات كثيرة له بالسرقة والانتحال وأخرى بأنه تغريبي وغيرها، كانت نتيجة لأفكاره وكتاباته. ويأتي كتاب “استرداد طه حسين” ليبين مسيرته ويرد بشكل غير مباشر على مهاجميه.
عمان- يسعى الناقد والأكاديمي المصري ممدوح فراج النابي في كتابه الجديد “استرداد طه حسين” إلى قراءة الفكر النقدي لطه حسين، قراءة جديدة بعيدة عن تلك المغالطات التي نسبت إليه، كما يحاول الرد، بطريقة غير مباشرة، على من أساؤوا وما زالوا يسيئون إلى شخصية حسين، باعتباره بوقا غربيا يردد ما يمليه عليه الغرب، من أساتذة تتلمذ على أيديهم.
وعلاوة على رد الإساءة المتكررة، يسعى الكتاب من ضمن أحد أهدافه، إلى إثبات ريادات طه حسين الفكرية، في اتباع المناهج العلمية الحديثة واعتبارها آلية منهجية يتبعها الدارس في تناول الظواهر الأدبية.
الاستباحة الدائمة

ممدوح فراج النابي يسعى إلى قراءة الفكر النقدي لطه حسين قراءة جديدة بعيدة عن تلك المغالطات التي نسبت إليه
يشير المؤلف في مقدمة كتابه، الصادر مؤخرا عن دار خطوط وظلال للنشر بعمان، والتي عنونها بـ”الشيخ المستنير” إلى أن الدكتور طه حسين (1889 - 1973) يمثل حالة فريدة وخاصة جدا في الفكر والإبداع العربيين، فهو معجزة فريدة وخالدة أيضا، وعبقرية فكرية وأدبية معاصرة بلا جدال، كما وصفه الدكتور محمد الدسوقي.
ونال حسين تلك المكانة لما أثارته كتاباته على تعددها، وتحديدا النقدية والفكرية، من أفكار كان لها السبق والريادة في تناول قضايا إشكالية على المستوى النقدي والفكري، لم يكن من السهل مجرد الاقتراب منها، أو حتى إثارتها بالسؤال لا بتقويضها وتفكيكها كما فعل، هذا من جانب، ومن جانب ثان لما خلفته هذه الأفكار من هزات للثوابت بدعوتها إلى العقلانية، وعدم الركون إلى الموروث والمسلم به. فأثار الكثير من الجدل سواء على مستوى شخصيته، أو على مستوى كتاباته، التي كانت تثويرا وخرقا للسائد، وكسرا للجمود والتحجر.
وبسبب هذه الأفكار وخروجها عن النسق السائد أو الرائج، تم اصطياده من قبل رجال الدين إلى الفخاخ التي نصبت له، بل يمكننا القول إنه وعلى امتداد حياته لم يهنأ قط بسبب ملاك الحقيقة المطلقة، أو المتزمتين من ذوي الأصولية الدينية، أو أصحاب الفكر الأحادي المغلق بتعبير حنة أرندت الذي يحكم على الواقع وهو خارجه، ويكتفي بذاته ولا يعترف بغيره.
وقد أدان معسكر القديم من الشيوخ ورجال الأزهر أفكار طه حسين، لأنها كانت تمهد لثورة على المسلمات الراسخة التي آمنوا بها إلى حد التقديس، دون أن يعملوا عقولهم، وهو ما كان فارقا كبيرا بين عقولهم التي أبت التجديد والخروج عن أثر السلف، وبين فكر طه حسين الذي كان يحلق بعيدا، متجاوزا لكل ما يرددونه من أفكار وقراءات، إذ يعمل العقل، أولا وأخيرا، في كل أمور حياته منذ أن كان طفلا في الكتّاب.
ومن ثم يمكن القول، بلا أدنى ريبة، إن طه حسين لم يثر فقط على مناهج الدرس التي كان ينتهجها الأساتذة والشيوخ في المدارس والأزهر ودار العلوم، بما طرحه من أفكار جريئة، بدءا من دراسته عن أبي العلاء المعري، وما استنتجه من آراء أثارت معسكر القديم ضده، وهو ما واصله بشكل صدامي في كتاب “في الشعر الجاهلي”، وإنما ثار ثورة شاملة وعامة، كانت أشبه بثورة عارمة على الجمود والرجعية، كما هو واضح في سيرته “الأيام”، وسعيه لتحطيم الأنساق المقيدة كافة، ووجوه الاستبداد التي عانى منها.
بسبب أفكاره الخارجة عن السائد، تم اصطياد طه حسين من قبل رجال الدين إلى فخاخ نصبت له
يتبنى هذا الكتاب الجديد للنابي منذ أن كان مشروعا تأسس مع مقالة “طه حسين وفتح آفاق المعرفة العلمية” وجهة نظر ربما يرى البعض فيها مبالغة، نوعا ما تتمثل في أن فكر طه حسين وشخصيته كانا مستباحين على الدوام، ومن ثم يسعى ضمن جملة أهدافه المعلنة تارة والمضمرة طورا إلى استرداد الشيخ المستنير، الذي تكالب الجميع، المناصرون والأعداء، على اختطافه، فالمناصرون، إلا قليلا، لم يفعلوا سوى أن رددوا مكرور الكلام الذي قيل في كل مناسبة عنيت بطه حسين، دون أن يسعوا إلى قراءة متمهلة لتراثه، والنظر إليه بنظرة عقلانية كما كان يدعو في كتاباته، بعيدا عن القراءات العجلى التي لم تضف له شيئا، أو حتى تستكشف ما توارى بين السطور، من آراء وأفكار لها جاهزيتها الآن.
وبالمثل كان أعداؤه باختزالهم فكره وحصره في دائرة ضيقة، بل وأشهروا سهامهم ونبالهم، دون أن يعطوا لأنفسهم فرصة للتفكير والابتعاد عن الفكر الأحادي الذي خندقوا فيه الرجل، حتى من عاد إلى صوابه منهم، وارتأى في الرجل ما يستحق أن يتناوله بالدرس، أساء له بقدر ما أحسن إليه، على نحو ما فعل المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة وحاول تمريره في كتابه “من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام” (2014)، إذ تخيل أن طه حسين مرتد فسعى عبر كتابه إلى استعادة طه حسين إلى صفوف الإسلاميين، حيث وجد أن العميد تأسلم عندما تقدم به العمر، بل أنكر أعماله الأولى الجاحدة العقيمة، وهو الأمر الذي لا يمت للحقيقة بصلة، ولا ينطوي على أي علاقة بشخصية طه حسين العنيدة.
الشيخ العاشق

صورة متكاملة لحد ما عن العميد
الكتاب أشبه باسترداد لطه حسين من براثن الأيادي الآثمة التي عبثت بتراث الرجل وأفكاره، دفاعا عن القيمة لا دفاعا عن الشخص، وبناء على هذا يأتي هذا المؤلف في ثلاثة أقسام، بداية بقسم يحمل عنوان “دفاعا عن العميد”. ويحتوي على موضوعات: أصول الشك عند طه حسين، ورأى فيه المؤلف أنه كان سباقا عن غيره في الشك في الشعر الجاهلي، منذ مقالته عن الخنساء، كما سعى لإعادة الاعتبار لكتاب “في الشعر الجاهلي”، بعيدا عما لحقه من اتهامات بأنه منتحل من دراسة مارجليوث عن “الانتحال في الشعر الجاهلي”.
كما تطرق النابي إلى دراسة مصادر الشك عند طه حسين، والتي أرجعها إلى دراسته على يد الأستاذ نالينو، وهي المرحلة التي سبقت رحلته إلى باريس، وإن كان نجيب سرور يرجع مصادره إلى تأثره بشيخه أبي العلاء المعري.
وناقش الناقد أيضا اختلاف مفهومه للشك عن ذلك الذي قصده ديكارت في كتابه “مقال في المنهج”. كما تناول ما لحق “مذاكرات طه حسين” من تشويه وتحريف، بعدما أعادت إحدى المجلات نشرها احتفاء بذكرى رحيله، وتعرض فيها لعلاقة المذكرات بالجزأين الأول والثاني من الأيام، وهل يمكن اعتبارها متممة للجزأين، أم هي منفصلة يمكن قراءتها كجزء مستقل. إضافة إلى عرض وسائل التشويه أو التحريف التي لحقت بالمذكرات.
كما تناول النابي بالبحث كتاب طه حسين “الأيام”، في محاولة لتحريره من الانتحال أو السرقة كما تخيل البعض، وبأنه مأخوذ من رواية “منصور” لأحمد ضيف، وفيه عرض لقصة “الأيام” ودوافع كتابتها، وأهميتها في مسيرة الأدب العربي الحديث.
وخصص النابي القسم الثاني من الكتاب بعنوان “العميد والريادة” إلى ثلاثة مواضيع، بداية بـ”فتح آفاق المنهج العلمي”، حيث درس كيف فتح طه حسين بدراسته عن أبي العلاء المعري آفاقا جديدة في البحث العلمي، إذ طبق من خلالها أول منهج علمي رصين في ذلك التوقيت المبكر، على شخصية أبي العلاء. وكان المنهج الجديد لحسين بمثابة ثورة على المناهج التقليدية الشائعة في المدارس والأزهر ودار العلوم، وقد اعتبره البديل لإنقاذ الأدب ودرسه في مصر.
وتناول الناقد أيضا قضية “طه حسين في مواجهة تودوروف”، حيث وضع الناقدين في مقارنة تجمع بينهما على قدر ما بينهما من تباين ظاهر، فطه حسين ناقد اجتماعي، وتودوروف ناقد بنيوي. المقارنة غرضها تلاقي الأضداد في الأهداف، وقد لخصتها صيحة تودوروف المتأخرة بأن “الأدب في خطر”، وهي الصيحة التي تلتقي مع صيحة طه حسين التي أطلقها في الربع الأول من القرن العشرين، وهو يبحث عن مشكلات الدرس الأدبي في المدارس والجامعات. وبناء عليه درس الفصل كيف التقى الفكران من أجل هدف وحيد هو التنديد بأن الأدب في خطر. وأظهرت أن غايتهما المشتركة هي البحث عن غاية الأدب، وتمركزها حول الدور الاجتماعي، من حيث هو أداة معرفية واستنهاض وتهذيب، وأن له دورا في توعية القارئ والارتقاء به.
الكتاب أشبه باسترداد لطه حسين من الأيادي التي عبثت بتراثه وأفكاره، دفاعا عن القيمة لا عن الشخص
أما الموضوع الثالث فهو متصل ببحث طه حسين عن “استعمالات الضمير الغائب في القرآن”، وهو البحث الذي قدمه حسين في مؤتمر المستشرقين، وهو ما أعاد الهجوم مجددا عليه.
وبحث النابي في القسم الأخير من الكتاب حول “الوجه الآخر من العميد” مقدما بعض وجوه العميد المتعددة، على نحو الناقد المعنف، والشيخ العاشق، والحاج طه. والغرض من هذا القسم هو تقديم صورة متكاملة لحد ما عن العميد، والكشف عن ملامح هذه الشخصية التي تجمع بين النقيضين في بعض جوانبها.