علي سعيد الكعبي لـ"العرب": تعليم التراث يعزز الوعي الثقافي ويحافظ على الهوية

الإمارات قطعت شوطا كبيرا في تعزيز التراث وتناقله بين الأجيال.
الأحد 2024/10/20
الهوية الوطنية تتناقلها الأجيال

مع التطور الكبير الذي تعرفه الحياة في الإمارات فإنها لم تتخل مطلقا عن العناية بتراثها، وهو ما يظهر في البرامج الثقافية والتعليمية وحتى الترفيهية والاجتماعية وغيرها، والتي تصب كلها في مسار الحفاظ على التراث وضمان تناقله بين الأجيال وتحقيق استدامته عبر تطوير طرق التعامل معه، ما ساهم في ترسيخ أركان الهوية الإماراتية في عالم يشهد تراجع الخصوصيات. في هذا الصدد كان لـ"العرب" هذا الحوار مع  الأكاديمي الإماراتي علي سعيد الكعبي.

يظل التراث ميراث الأصالة لكل المجتمعات الإنسانية، وللتراث الإماراتي خصوصية وتفرّد، فصفحات التاريخ تشي بالكثير من التفاصيل الملهمة التي تدلنا على أنه تراث ينبض بروح الأجداد الذين غزلوا حكايات ملحمية حروفها الصبر والكفاح.

ويتعاظم اليوم دور التعليم الأساسي في نقل تلك العراقة للأجيال القادمة بما يسهم في تعزيز الهوية الوطنية الإماراتية.

وحول الجهود الإماراتية لتوظيف التعليم في خدمة التراث، يدور هذا الحوار مع الدكتور علي سعيد الكعبي الأكاديمي الإماراتي، ورئيس اللجنة العليا لجائزة كنز الجيل، ونائب مدير جامعة الإمارات العربية المتحدة، ورئيس المجلس الإستشاري للمركز الإقليمي للتطوير التربوي.

تعزيز الوعي

في البداية تسأل “العرب” الكعبي عن رؤيته لأهمية الحفاظ على تعريف الأجيال الجديدة بالتراث الإماراتي، ليجيبنا بالتأكيد على أن تعريف الأجيال الجديدة بالتراث الإماراتي، يُمثّل ركيزة أساسية في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء الثقافي في ظل العولمة المتسارعة والتأثيرات الثقافية العالمية المتزايدة، حيث يصبح من الضروري تعزيز الهوية الوطنية عبر تعليم الأجيال الجديدة بتراثهم الثقافي وتقاليدهم.

ويوضح أن التراث الإماراتي ليس مجرد مخزون من القصص أو الأحداث التاريخية، بل هو تجربة حياتية تعكس قيم المجتمع الإماراتي وتقاليده التي تمتد عبر القرون. يمثل التراث موروثا ثقافيا يجسد القيم الإنسانية مثل الشجاعة والكرم والولاء، وهي القيم التي ساهمت في بناء المجتمع الإماراتي على مر العصور.

الجهود المبذولة في تعزيز التراث في التعليم قد قطعت شوطا كبيرا، خاصة مع المبادرات الحكومية لتعزيز الهوية الوطنية
الجهود المبذولة في تعزيز التراث في التعليم قد قطعت شوطا كبيرا، خاصة مع المبادرات الحكومية لتعزيز الهوية الوطنية

وينوّه بأن تعليم التراث يلعب دورا أساسيا في تربية أجيال قادرة على التفاعل مع العالم الحديث، مع الحفاظ على هويتها الثقافية والجذور العميقة. مضيفا “من خلال تدريس التراث، نعلم الطلاب كيف كانت الحياة في الإمارات قبل النهضة الاقتصادية والتطور التكنولوجي، وكيف أن تلك الفترة التاريخية أسهمت في تكوين ملامح الدولة الحديثة”.

ويقول الكعبي لـ”العرب” إنه على سبيل المثال، يمكن تدريس التراث البحري الإماراتي وكيف أن سكان الإمارات في الماضي اعتمدوا على البحر في معيشتهم من خلال صيد اللؤلؤ وتجارة السفن. هذه القصص والحقائق لا تعطي فقط صورة عن الماضي، ولكنها تسهم في غرس قيم الصبر والعمل الجماعي والقدرة على التكيف مع الظروف الصعبة.

ويشدّد على أن التراث الإماراتي يُعد وسيلة لتعزيز الانتماء الوطني لدى الأجيال الجديدة. وأنه عندما يتعلم الطلاب عن إنجازات أجدادهم وكيف استطاعوا بناء مجتمع مزدهر من بيئة صحراوية قاسية، يتولد لديهم شعور بالفخر والمسؤولية تجاه الحفاظ على هذا الموروث. كما أن تعليم التراث يسهم في تعزيز الوعي الثقافي لدى الطلاب، ويجعلهم أكثر قدرة على فهم قيمة التراث في السياق العالمي وكيف أن الحفاظ عليه يسهم في تعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة.

وحول تقييمه للجهود الإماراتية الكبيرة في مجال التعليم، ورؤيته لفكرة تعزيز الهوية، يقول الدكتور علي سعيد الكعبي “على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته الإمارات في مجال التعليم، يبقى تعزيز الهوية الوطنية موضوعا يتطلب تكاملا بين مختلف المواد الدراسية”.

ويضيف “لا يمكن حصر الهوية الوطنية في كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية فقط، بل يجب أن يتم دمج عناصر التراث الإماراتي في جميع المواد الدراسية. فعلى سبيل المثال، في دروس العلوم، يمكن للمعلمين توجيه الطلاب لاستكشاف تأثيرات البيئة الصحراوية والمناخ على الحياة في الإمارات وكيف استطاع الأجداد التكيف مع هذه الظروف. في دروس الأدب، يمكن دراسة الشعر النبطي كجزء من التراث الأدبي الإماراتي وكيف يعبر هذا النوع من الشعر عن قيم المجتمع وأفكاره”.

ويلفت إلى أن الجهود الحالية في هذا المجال تُظهر أن هناك وعيا متزايدا بأهمية تكامل الهوية الوطنية والتراث في المناهج التعليمية. ويضرب مثالا على ذلك ببدء وزارة التربية والتعليم في تقديم وحدات دراسية تركز على التراث الإماراتي والتاريخ المحلي، وهو خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة إلى تعزيز هذه الجهود من خلال دمج التراث في كافة جوانب التعليم، بما في ذلك الأنشطة اللاصفية والمشاريع التعليمية التي تعزز من التفاعل بين الطلاب وتراثهم الثقافي.

التعليم والتراث

تعريف الأجيال الجديدة بالتراث الإماراتي، يمثل ركيزة أساسية في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء الثقافي

حول تقييمه للجهود المبذولة في استحضار التراث في طرق ومناهج التعليم بما يعزز الهوية الوطنية، يقول الكعبي إن الجهود المبذولة لاستحضار التراث الإماراتي في المناهج التعليمية تُظهر رؤية إستراتيجية واضحة، وأنه لضمان نجاح تلك الجهود، يجب تطويرها بشكل مستمر لتكون أكثر شمولا وجاذبية للطلاب.

 ويثمّن إدراج التراث في مواد مثل التاريخ والدراسات الاجتماعية ويعتبره خطوة مهمة، مشددا على أن دمج هذا التراث يجب أن يتسع ليشمل مواد أخرى مثل العلوم والفنون. هذا النهج المتكامل يُسهم في جعل التراث جزءا لا يتجزأ من تجربة التعلم للطلاب، مما يعزز انتماءهم الوطني وفهمهم لقيم مجتمعهم.

ويشير إلى ضرورة استخدام تقنيات حديثة مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز لجعل التراث تجربة حية وتفاعلية للطلاب، مما يساعدهم على التعرف على ماضيهم بطرق مبتكرة.

ويقول إنه على سبيل المثال، يمكن للطلاب زيارة المواقع التاريخية أو العيش في الماضي عبر هذه التقنيات، مما يضيف بعدا جديدا للتعليم التقليدي ويخلق تجربة تعليمية غنية تربط بين الحاضر والماضي.

وينوّه في حديثه لـ”العرب” بأن المعلمين هم العنصر الأساسي في نجاح هذه الجهود، ويجب أن يتم تدريبهم بشكل جيد ليكونوا قادرين على تقديم التراث بطرق مبتكرة وجاذبة. إعداد المعلم بشكل صحيح يمكّنه من تقديم التراث كموضوع حيوي مرتبط بحياة الطلاب اليومية، وليس كمجرد معلومات جافة تُقدم في الكتب الدراسية. على المعلمين أن يصبحوا وسطاء فعالين بين التراث والمحتوى التعليمي الحديث، مما يجعل التعلم أكثر تفاعلا ويعزز فهم الطلاب للتراث وقيمه.

ويرى الكعبي أن الفعاليات الثقافية والمهرجانات التراثية التي تنظمها الدولة، مثل “مهرجان الشيخ زايد التراثي”، و”مهرجان قصر الحصن”، تُسهم أيضا في ربط الطلاب بتراثهم بشكل مباشر. هذه الفعاليات تقدم بيئة تعليمية غير رسمية تتيح للطلاب وأسرهم التفاعل مع التراث الإماراتي بشكل عملي، مما يعزز شعورهم بالانتماء والارتباط بتاريخهم. تلك الأنشطة تعتبر امتدادا طبيعيا لما يتم تدريسه في الفصول الدراسية، وتساعد على ترسيخ المفاهيم التاريخية والثقافية في عقول الطلاب.

التراث يربي أجيالا قادرة على التفاعل مع العالم الحديث
التراث يربي أجيالا قادرة على التفاعل مع العالم الحديث

وحول رؤيته لدور الأنشطة التعليمية في خدمة العملية التعليمية وخدمة المناهج التي تعزز تعلم التراث، يقول “إن الأنشطة التعليمية تلعب دورا مُهما في دعم العملية التعليمية بشكل عام، وخاصة في ما يتعلق بتعليم التراث. فالتعليم التقليدي في الفصول الدراسية قد يكون محدودا في قدرته على توصيل المفاهيم بشكل عملي”.

ويتابع بأنه هنا تأتي أهمية الأنشطة التعليمية التي تتيح للطلاب فرصة التفاعل المباشر مع موضوعات التعلم. على سبيل المثال، يمكن تنظيم رحلات مدرسية إلى المواقع التراثية مثل “حصن الفهيدي” في دبي أو “متحف اللوفر” في أبوظبي لتعزيز فهم الطلاب للتراث الثقافي والمعماري للإمارات. هذه الأنشطة تجعل الطلاب يرون التاريخ والتراث بصورة حية وتفاعلية، مما يسهم في تعزيز الفهم العميق للمفاهيم التي يتم تدريسها في الفصول.

ويبيّن أن بالإضافة إلى ذلك، تشجع الأنشطة التعليمية الطلاب على استخدام مهاراتهم الإبداعية في التعبير عن فهمهم للتراث. يمكن مثلا تنظيم مسابقات شعرية أو مسرحيات مدرسية تستند إلى قصص من التراث الإماراتي، مما يعزز من قدرة الطلاب على التعبير الإبداعي وربط المعرفة الأكاديمية بالحياة الواقعية. الأنشطة التعليمية توفر أيضا بيئة للتعلم التعاوني، حيث يعمل الطلاب معا في فرق لحل المشكلات أو تقديم مشاريع، مما يعزز من قيم التعاون والعمل الجماعي التي تشكل جزءا من التراث الإماراتي.

أما عن رؤيته لسير العملية التعليمية من واقع عمله وخبرته ومسيرته الكبيرة، فيلفت إلى أن من خلال تجربته في مجال التعليم، يرى أن العملية التعليمية في الإمارات قد شهدت تطورا كبيرا على مدار السنوات الماضية. وأنه بصفته أستاذا جامعيا متخصصا في سياسات التعليم، كان شاهدا على التحولات الكبيرة التي طرأت على النظام التعليمي، بدءا من تحديث المناهج التعليمية إلى تبني التقنيات الحديثة في التدريس.

ويضيف بأنه ومع ذلك، فهو يؤمن بأن هناك دائما مجالا للتحسين، خاصة في ما يتعلق بدمج الهوية الوطنية والتراث في النظام التعليمي بطريقة أكثر فعالية.

ويقول الكعبي “إن النظام التعليمي اليوم يركز بشكل كبير على التكنولوجيا والابتكار، وهو أمر مهم بلا شك، لكن يجب ألا نغفل عن أهمية تعزيز القيم التراثية. من الضروري أن يجد الطلاب توازنا بين التعلم التقني والحفاظ على هويتهم الثقافية. وهذا يتطلب من القائمين على التعليم تطوير برامج دراسية تربط بين الحداثة والتراث، وتقديم محتوى تعليمي يجعل الطلاب قادرين على التفاعل مع عالم متغير دون فقدان هويتهم”.

أدوار المعلمين

التراث الإماراتي ليس مجرد مخزون من القصص أو الأحداث التاريخية، بل هو تجربة حياتية تعكس قيم المجتمع الإماراتي

تسأله “العرب” أيضا كيف تطور الاهتمام بالتراث في النظام التعليمي؟ ليشرح لنا أكثر عن المراحل التي مر بها، فيجيبنا بأن “الاهتمام بالتراث الإماراتي في النظام التعليمي قد مر بمراحل متعددة. وأن في البدايات، كان التركيز على تدريس التاريخ والتراث يتم بشكل تقليدي يعتمد على السرد النصي والتلقين. ومع تقدم الزمن وازدياد الوعي بأهمية التراث، بدأ النظام التعليمي في الإمارات في تبني أساليب جديدة لتقديم التراث، مثل استخدام الوسائط التفاعلية والتقنيات الحديثة في تدريس الموضوعات المتعلقة بالتراث”.

ويبيّن أنه يرى أن الجهود المبذولة في تعزيز التراث في التعليم قد قطعت شوطا كبيرا، خاصة مع المبادرات الحكومية التي تهدف إلى تعزيز الهوية الوطنية من خلال التعليم. وأن من بين هذه المبادرات، إنشاء متاحف تعليمية وتطوير برامج تعليمية ترتكز على التراث، بالإضافة إلى تشجيع الطلاب على المشاركة في الأنشطة الثقافية التي تعزز ارتباطهم بتراثهم.

ويؤكد أن “بالرغم من هذه الجهود، لا يزال هناك حاجة إلى المزيد من التطوير في هذا المجال. يجب أن نركز على تقديم التراث بشكل يجذب اهتمام الطلاب ويجعلهم يتفاعلون معه، بدلا من تقديمه كموضوع دراسي جاف. ويجب أيضا تعزيز دور المعلمين في نقل هذا التراث، من خلال تقديم دورات تدريبية تساعدهم على تقديم المعلومات التراثية بأسلوب مشوق يتناسب مع اهتمامات الجيل الجديد”.

وفي ختام هذا الحوار تسأل “العرب” الدكتور علي سعيد الكعبي هل تكامل التراث الإماراتي في النظام التعليمي: تطوير مناهج أم إعداد المعلم؟

ليجيبنا بالتأكيد على أن تكامل التراث الإماراتي في النظام التعليمي يتطلب توازنا بين تطوير المناهج وإعداد المعلمين. من ناحية، يجب أن تكون المناهج التعليمية شاملة ومتنوعة، وتقدم التراث الإماراتي بشكل يعكس قيم المجتمع وتاريخه الطويل. تطوير المناهج يجب أن يركز على تقديم المعلومات بطريقة تفاعلية ومبتكرة، باستخدام التقنيات الحديثة لجعل المحتوى التعليمي أكثر جاذبية للطلاب.

ويضيف أن على الجانب الآخر، يجب أن يكون للمعلمين دور محوري في هذه العملية. إعداد المعلمين يجب أن يكون جزءا أساسيا من أي إستراتيجية تهدف إلى دمج التراث في التعليم. المعلمون هم الجسر بين المعلومات والطلاب، وإذا لم يكونوا مجهزين بشكل جيد لتقديم التراث بأسلوب مشوق وتفاعلي، فإن الجهود المبذولة في تطوير المناهج قد لا تحقق النتائج المرجوة. لذلك، يجب توفير دورات تدريبية للمعلمين تركز على كيفية تدريس التراث بأسلوب يتناسب مع التحديات والفرص التي يقدمها القرن الحادي والعشرون.

9