لم يجد زهير بن أبي سُلمى أجملَ من الشعر طريقةً لإعادة البشر إلى عقولهم، ولم يجد خيراً من الخيالِ البليغِ للدفاع عن الحياة والجمال حين يتعرضان للقبحِ والإبادة.

لم أكن أرى في جاك سمارت مدرّساً تقليدياً، بل أكاديمياً على طريقته الخاصة، ومقبلاً على الحياة بشراهة عجيبة.

الطيور تكمن في مكان ما، في انتظار حفنة من الضوء، وشمس تجلس “عارية الكتفين على المصطبة”، في انتظار شجرة تنفض شيبها الغزير وتتركه يذهب بعيداً مع الريح.

الاحتكام إلى الواقع الفعلي للشاعر لا يقدم البراهين دائماً على أنه ذو نشأة أثيرية عليا. بل على العكس من ذلك في أحيان كثيرة، قد يمدنا بما ينسف تلك الهالة الموغلة في مثاليتها أو لاواقعيتها تماماً.

من المؤكد أن أحمد دحبور لم يعش نشوة النجومية التي عاشها غيره دون وجه حق أحياناً، إلاّ أنه قدم براهينه الكاملة على تناغم شعري وإنساني قلّ نظيره.

سنوات الثمانينات من القرن الماضي في العراق مرت قانية اللون. تحملناها بصبر نادر، لا يعرف المنة. كان على الوطن المهدور دمه أن يتنبه الى جميع الجهات.

كان جمال الموصل، وثقافتها الجادة، ومزاجها المتحضر، هدفاً لقوى الجهل والتخلف من كل حدبٍ وصوب، وكان جمالُها المترف يتعرض للإبادة الممنهجة.

لا يؤكد الشاعر انتماءه إلى تلك السلالة الرفيعة، من حاملي شارات المجتمع الشعريّ المقدس، ولا يكون الشاعر شاعراً، كما يبدو، إلاّ بهذا الاقتراب الماحي للملامح الشعرية الخاصة!

لا يملك المرء في اللحظات الاستثنائية إلاّ أن يُكْبِرَ في هذه المجتمعات احتفاءها بعباقرتها الخالدين، وسيرهم التي لا تزال تنبض بالحياة، من خلال بيوتٍ سكنوها، أو أمكنةٍ مروا بها.

ليس أجمل من رفقة الكتاب في خلوة حميمة، أو رحلة ممتعة. ليس أجمل منه حين يكون في صدارة بيت عامر بالمحبة والأمل وفي عائلة يربطها بالقراءة رباط من الشغف الجميل.

مجتمعات لا تملك ما نملك من ثروات، لكنها تغدق كل هذا الحنان حتى على الكلاب، بينما يتعذب أطفالنا، كل يوم، في مجتمعات لا تجود عليهم، رغم ثرائها، إلاّ باليتم والدمع والحرمان الوفير.

درويش شاعر يحتله الإيقاع، ولم يكن استعماله للوزن الشعريّ تقليديا، بل كان صاحب اجتهادات بارعة فيه.

إنّ للجمال المتخفي سحرا خاصا، تتضاعف معه قدرته على التأثير. وللجمال الغائم، الذي يومئ من بعيد، ويتمنّع على الرائي، طاقة تتجاوز قوائم الوصايا التعليمات.

دون هذا الثبات، وتلك الموهبة اليقظة، لا يمكن للشاعر أن يحتفظ ببصمته حية وفاعلة في خضم هذا الخزين الغافي والقراءات المنسية.

النقد الذي يكتب بدافع اللؤم أو بدافع الجهل أو بدافع انحياز جماليّ ضيق سيقود إلى إلحاق الأذى النقدي ذاته بما يقع بين مخالبه من نصوص.

هل كانت سماء المدينة معجونة بماء البرتقال؟ وهل كانت الغيوم لا تصعد إلاّ من بساتينها الكثيفة مهابة النخيل وحلاوته؟ هكذا كنت أتساءل أحيانا.

لا شك في أن فعل القراءة يشير إلى عمق الصلة بالشعر، وعيا ومعرفة وإحساسا مدربا. بينما لا يصل مصطلح الجمهور، ربما، إلى هذه المديات جميعا وبالعمق ذاته.

في طفولة بعيدة، أفتش عنها في ذاكرتي دون جدوى أحيانا، كنت أستجيب بانفعال عال، لمشاهد ممعنة في بساطتها .