علمانية الجامعات في العراق على المحك

في الوقت الذي يُجمَّد فيه قانون فرض الحجاب على النساء في إيران، وحديث رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف عن عدم إمكانية استمرار القانون المذكور، إذ حملت تصريحاته في طياتها دلالات على التحولات الكبيرة في المنطقة، إلى جانب الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة التي تمر بها الجمهورية الإسلامية، والاحتقان الاجتماعي المستمر، الذي تفجّر في إحدى محطاته قبل سنتين، وأدى إلى انطلاق حركة تطالب بإسقاط النظام السياسي، وذلك إثر مقتل مهسا أميني في معتقلات النظام بسبب عدم ارتدائها الحجاب، وبينما تتهاوى أركان “قلعة الإسلام السياسي”، هناك، تشهد الساحة العراقية خطوات متسارعة لأسلمة المجتمع العراقي وحسم هوية الدولة السياسية، وسط تداعيات التحولات الإقليمية التي تثير قلق القوى الإسلامية من الأحزاب والميليشيات في العراق بتقويض مكانتها في السلطة. غير أن هذه المساعي تصطدم بموجة مقاومة كبيرة، تتجلى في اعتراضات واحتجاجات اجتماعية آخذة في التبلور نحو حركة علمانية مدنية وحضارية. وإلى جانب ذلك، لم تنجح الأحزاب الإسلامية الشيعية، حتى الآن، في حسم الصراع على السلطة أو إقصاء معارضيها نهائيا.
سقوط نظام الأسد، الذي أعقب مباشرة الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله في لبنان وتقزيمه عسكريا وسياسيا، واعتلاء أحد أجنحة الإسلام السياسي السني، ممثلا بهيئة تحرير الشام، السلطة في دمشق، أربك جميع الحسابات الإستراتيجية لحلفاء إيران في المنطقة، وخاصة ما تبقى من قطع الدومينو المتساقطة في العراق. إذ تعتمد معادلة السلطة في العراق التي تهيمن عليها الأحزاب الإسلامية الشيعية على دعامة النفوذ الإيراني.
الأحزاب الإسلامية التي تدير السلطة اليوم في العراق تدرك جيدا أن مفتاح أسلمة المجتمع يكمن في أسلمة الجامعات العراقية
صحيح أن مساعي أسلمة المجتمع العراقي أخذت منحى تصاعديا منذ الغزو واحتلال العراق، وشهدت تذبذبا في بعض المراحل، إلا أن حسم هوية الدولة ككيان طائفي وديني، وفرض الاستبداد السياسي، انطلقت قاطرته بشكل قانوني وسياسي ممنهج منذ تعيين محمد شياع السوداني رئيسا للوزراء من قبل تحالف تلك الأحزاب الإسلامية الذي يسمى بالإطار التنسيقي. وقد تجلى ذلك في سلسلة من القوانين، مثل قانون مكافحة البغاء والمثلية، وقانون عيد الغدير، وآخرها تعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي يشرعن التقسيم الاجتماعي الطائفي والديني للمجتمع العراقي. وإذا دققنا في هذه القوانين، إلى جانب قرارات أو مشاريع قوانين موازية ومتناسقة معها، مثل اعتقال أي شخص بتهمة الترويج لمحتوى “هابط”، ومسودة قانون حرية التعبير، وقانون الحريات النقابية، يتضح بشكل لا لبس فيه أن عملية أسلمة المجتمع العراقي مرتبطة ارتباطا وثيقا بترسيخ سلطة استبدادية. أي، بعبارة أخرى، لا أسلمة للمجتمع مع وجود الحريات، فالأسلمة كسياسة ممنهجة ترتبط ارتباطا عضويا بالاستبداد السياسي.
وفي هذا السياق، تأتي المحاولات المستمرة لانتزاع صفة العلمانية من الجامعات العراقية. وإذا عدنا إلى التاريخ، وتحديدا في أواسط القرن العشرين وبعد النصف الثاني منه، نجد أن هناك حركتين اجتماعيتين ساهمتا في رسم المشهد السياسي العراقي: الحركة الطلابية والحركة العمالية. وكانت الأحزاب السياسية، التي مثلت تيارات وميولا مختلفة داخل تلك الحركات هي مدنية الطابع، على سبيل المثال حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب قومية أخرى. وقد نشأ معظم كوادر وقيادات هذه الأحزاب وتعلموا داخل الجامعات، وساهموا بفاعلية في الحركة الطلابية، حيث كانت الأحزاب تتنافس على توجيه سياستها والتأثير فيها وسيادة أفقها عبر الانتخابات الطلابية.
إن الأحزاب الإسلامية التي تدير السلطة اليوم في العراق تدرك جيدا أن مفتاح أسلمة المجتمع يكمن في أسلمة الجامعات العراقية. وفي هذا السياق، أصدرت قرارا يصب في إطار ترسيخ استبداد السلطة السياسية ونهج الأسلمة، يقضي بمنع تشكيل أي تنظيمات طلابية. ويشرف على تنفيذ هذا القرار، إن لم يكن صادرا عنه مباشرة، وزير التعليم العالي نعيم العبودي، المنتمي إلى ميليشيات عصائب أهل الحق. ويجدر بالذكر أن قانون الأحزاب السياسية في العراق يمنع مشاركة الجماعات المسلحة في الانتخابات أو الترشح لها. لكن العراق، كما هو معتاد، يشكل استثناءً لكل القواعد، حيث يكون الخاسر في الانتخابات هو من يشكل الحكومة، وحيث يتمكن من يملك مقعدا أو مقعدين في البرلمان من أصل 328 مقعدا من توجيه دفة السلطة والسيطرة على مفاصلها.
بالتزامن مع القرار الذي منع تشكيل أي منظمة طلابية، وأدى إلى حل الاتحاد العام لطلبة العراق، قامت الأحزاب الإسلامية بتشكيل اتحاد جديد، يمثله طلاب الحوزة العلمية في النجف، الذين يجوبون الجامعات لإلقاء المحاضرات الدينية. ولم تتوقف هذه الإجراءات عند هذا الحد، بل امتدت إلى تحويل المناسبات الجامعية، مثل حفلات التخرج، إلى استعراضات طائفية، تُرفع فيها صور قاسم سليماني وأبومهدي المهندس، اللذين اغتيلا في يناير 2021 على يد القوات الأميركية، ويجري خلالها التمجيد بميليشيات الحشد الشعبي. بالتوازي مع ذلك، تم إصدار عدد من القرارات في مختلف الجامعات، مثل فصل الذكور عن الإناث، كما حدث في جامعة تكريت بمحافظة صلاح الدين، وفرض اللباس على الطالبات تحت مسمى “اللباس المحتشم”، إلى جانب تنظيم العشرات من المناسبات الطائفية داخل الجامعات.
يجب اتخاذ خطوة عملية بتشكيل إطار تنظيمي مستقل يرتكز على مجموعة من المطالب العادلة، أهمها: الدفاع عن علمانية الجامعات، ومنع تنظيم المناسبات الطائفية أو تمجيد قادة الميليشيات، والتصدي لسياسة الخصخصة، وضمان مجانية التعليم الجامعي
وعلى المستوى الآخر، تمكنت الأحزاب الإسلامية الشيعية وميليشياتها من استغلال سياسة الخصخصة التي كانت جزءا من سياسة الاحتلال، لتمهيد الطريق نحو خلق بيئة مواتية للأسلمة، من خلال الجيل الجديد في الجامعات، الذي يجري تأهيله وفق التصورات والأفكار والأيديولوجيا الإسلامية. تسير سياسة الخصخصة في العراق بوتيرة متسارعة، وتشمل جميع الميادين، حيث تتنصل الدولة من مسؤولياتها، ويبرز قطاع التعليم في مقدمة تلك المجالات.
إن تدهور التعليم، كنظام علمي وأكاديمي في المدارس، ليس مجرد نتيجة للفساد، بل إن الفساد ذاته هو أداة ممنهجة تهدف إلى إعداد جيل غير متعلم، مشوش الفكر، فاقد للبوصلة، وغير مسلح بسلاح العلم، ليكون بيئة خصبة لبناء منظومة خاوية من كل شيء سوى الخرافات الدينية والأفكار الغيبية. ويتم، من خلال هذه المنهجية، إغراق العقل الفردي والعقل الجمعي في مستنقع الطائفية، لمنع التفكير النقدي والبحث عن أسباب التدهور الاجتماعي والفقر المدقع، وإجهاض أي محاولة لكسر الجدار الطائفي الذي يُبنى بعناية، وإقامة ستار يحجب الهوية الإنسانية الجامعة التي تربط البشر في جغرافية تسمى العراق.
وعلى الجانب الآخر، تساهم سياسة خصخصة التعليم في حرمان أبناء العمال والكادحين غير القادرين على دفع تكاليف التعليم الجامعي من الوصول إلى الجامعات. وفي الوقت نفسه، تصبح هذه الجامعات إقطاعيات دينية لا يدخلها إلا الميسورون من الطبقة البرجوازية حديثو النعمة، مما يؤدي إلى إنتاج جيل متعلم ليكون أداةً لنشر الطائفية والخرافات والكراهية الدينية والتمييز الجنسي في المجتمع، بهدف ترسيخ النظام السياسي الطائفي والميليشياتي الفاسد، والمُمعِن في ارتكاب الجرائم بحق جماهير العراق.
وتجتمع هذه العوامل لتحقيق إستراتيجية أسلمة المجتمع. وبالرغم من وجود مقاومة داخل الجامعات ضد سياسات فصل الذكور عن الإناث، وفرض الزي على الطلاب الإناث، ومقاطعة المناسبات الدينية، إلا أن هذه المقاومة قد يتم إجهاضها إذا لم تُواجه بحراك اجتماعي، وجماهيري، وتنظيمي، وإعلامي واسع. وذلك على غرار ما قام به النظام البعثي سابقا، حين فرض اتحاد طلبة وحيدا داخل الجامعات، وعاقب بالسجن والأحكام المشددة، بما في ذلك الإعدام شنقا، كل من روج لإنشاء تنظيم طلابي مستقل عن اتحاد الطلبة البعثي.
إن الدفاع عن علمانية الجامعات يشكل أحد عوامل صمام الأمان لإفشال مخطط تقسيم المجتمع وفرض السياسة الطائفية عليه. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال توعية الطلبة بمخاطر سياسة الأسلمة في الجامعات من جهة، ومن جهة أخرى اتخاذ خطوة عملية بتشكيل إطار تنظيمي مستقل يرتكز على مجموعة من المطالب العادلة، أهمها: الدفاع عن علمانية الجامعات، ومنع تنظيم المناسبات الطائفية أو تمجيد قادة الميليشيات، والتصدي لسياسة الخصخصة، وضمان مجانية التعليم الجامعي. إضافة إلى ذلك، تنبغي المطالبة بتوفير مخصصات مالية للطلبة، أسوةً بما كان معمولا به في النظام السابق، وتهيئة أقسام داخلية مجهزة بجميع الخدمات الضرورية لطلبة المحافظات.