عقدة مصر والسودان من السياسة إلى الرياضة

هناك جهات في السودان تبدي رغبتها في عرقلة تحسين العلاقات مع مصر، وتعتقد أن كل تطور إيجابي فيها يقلل من طموحاتها السياسية، في مقدمتها فلول نظام الرئيس السابق عمر البشير والحركة الإسلامية بأطيافها المختلفة، ويتصورون أن كل تقارب بين القاهرة والخرطوم سوف يفرمل أحلامهم بالعودة إلى السلطة مرة أخرى.
وجد هؤلاء في كرة القدم وسيلة جيدة لاستقطاب شريحة كبيرة من الجمهور الغاضب، ففي كل مباراة بين فريق مصري وآخر سوداني يتم استدعاء العقد التاريخية المركبة ونقلها من السياسة إلى الرياضة، والإيحاء بوجود مؤامرة تنسجها بعض الفرق المصرية على نظيرتها السودانية، بصرف النظر عن التفوق المعتاد والكاسح لصالح الأولى، فالمهم اختلاق أزمة، ولو كانت رياضية هذه المرة.
شنت حسابات ومواقع سودانية، بعضها رسمي والآخر شخصي، حملة ضد فريق الأهلي المصري الذي سيلتقي نظيره الهلال السوداني في مباراة الإياب بالقاهرة في الأول من أبريل المقبل، واتهمته بالسيطرة على الاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) والتحامل على فريقها في مباراة الذهاب بالخرطوم التي لعبها الهلال وفاز بهدف نظيف في غياب الجمهور نتيجة عقوبات فرضها الاتحاد الأفريقي وليس بسبب وقوع الاتحاد تحت هيمنة الأهلي الذي أبدى من قبل تحفظات عديدة عليه.
ذهبت المباراة الأولى بحلوها ومرها وحقق الهلال نصرا منحه فرصة للاقتراب من الصعود وتنحية الأهلي، لكن جماهيره ومن يقفون خلف تحريضها ويريدون انتزاع نصر آخر في القاهرة بأي ثمن أبوا أن تمر مباراة العودة بلا ضجيج.
◙ تبدو الرياضة فرصة مناسبة للمزيد من التسخين لأن جزءا كبيرا من جماهير المشجعين في أي بلد ينجرف وراء الشعارات ويطرب للحماس الزائد ويرى أن دفاعه عن فريقه أشبه بدفاع عن وطن
ظهرت ملامح التسييس للمباراة المنتظرة مؤخرا، فعندما علم الهلال ومحبوه أن الأهلي يطالب بحضور عدد كبير من الجماهير حذروا الحكومة المصرية من مغبة وجود أعداد كبيرة في إستاد القاهرة الذي ستقام عليه المباراة باحتجاجات في الملعب أو خارجه، ما يمثل ضغطا أمنيا على النظام المصري برمته.
استغل نادي الهلال معرفته بتحفظ الأمن المصري على حضور الجماهير في الملاعب إلا بأعداد محدودة، ونفخ في هذه المسألة، وللمزيد من الضغط رفعت جماهيره شعارا يقول “هزيمة الهلال والسيسي” في إشارة إلى احتمال قيام الجماهير الغفيرة التي ستشهد مباراة السبت المقبل بتظاهرات عقب فوز الأهلي ضد الرئيس عبدالفتاح السيسي.
اعتقد من دشنوا الشعار وما يحمله من دلالات سياسية أن الأمن المصري سيستجيب لهم ويخفض عدد الجماهير أو يوافق على إقامة المباراة من دونها، غير أن الرسالة جاءت عكسية، حيث وافقت وزارة الداخلية المصرية على حضور خمسين ألف متفرج (قابلة للزيادة) في إستاد القاهرة الدولي، وكان أقصى طموح للنادي الأهلي أن يرفع عدد الجماهير إلى عشرين ألف متفرج.
وقعت جماهير الهلال السوداني في خطأين، الأول السعي نحو التسييس المتعمد وتصوير اللقاء على أنه أكبر من مباراة في كرة القدم، والثاني اختلاق أزمة بين بلدين، فقد انطوى استفزاز جماهير الأهلي من جانب الهلال على استفزاز آخر للنظام المصري، ما جعله يوافق على إفساح المجال لحضور جماهيري أكبر من المعتاد في هذه المناسبات وترتد الكرة إلى صدر الهلال ولاعبيه وجمهوره ومحرضيه.
قد يحظى الهلال بمؤيدين له من بين ملايين السودانيين المقيمين في مصر منذ سنوات، لكن حضورهم سوف يبدو هامشيا مقارنة بجماهير الأهلي التي ستحضر المباراة ومعها كل أسلحة التشجيع والحماس التي يمكن أن تجعلها أشبه بمعركة وطنية.
كان السودان ومصر في غنى عن هذه النوعية من التراشقات التي تزيد الاحتقانات، ما جعل جهات رسمية في القاهرة تحذر من مغبة الخروج عن النص في التشجيع، وتسعى لإقامة مباراة هادئة، فكرة القدم في النهاية تحفل بالمكسب والخسارة.
تنبع أهمية المباراة من أن فوز الأهلي يحسم تأهله للدور التالي في مسابقة بطولة أبطال أفريقيا، بينما تعادل الهلال أو فوزه يضمنان له التأهل على حساب الأهلي، مع فريق “صن داونز” الجنوب أفريقي الذي ضمن الصعود، وما يؤكد أنها تتجاوز كونها مباراة في كرة القدم تصاعد حدة الاستنفار على الجانبين، بصرف النظر عن الفوارق في المستوى الرياضي بين الناديين، ويميل لصالح الأهلي صاحب عشرة ألقاب قارية.
لا أعلم ما هي الجهة التي أرادت جر الرياضة إلى خندق السياسة والزج بالنظام المصري فيها، ولا أعلم مدى موافقة مجلس السيادة الحاكم في الخرطوم على ما ساقته جماهير الهلال من اتهامات بحق الأهلي ومحاولة توسيع الهوة بين الشعبين، كأن هناك من يريد الاستثمار في الشحن الجماهيري الذي تحفل به الرياضة لزيادة الاحتقان بين القاهرة والخرطوم.
يمر السودان بأزمة سياسية، كلما حاولت مصر التدخل تجد صدا من هنا أو هناك فتتراجع، ثم يلومها البعض على عدم مساهمتها في الحل، وعندما تحاول أن تلعب دورا مهما في التسوية تتهم بالتآمر على السودان والعمل على استمرار الأزمة.
◙ المباراة الأولى ذهبت بحلوها ومرها وحقق الهلال نصرا منحه فرصة للاقتراب من الصعود وتنحية الأهلي، لكن جماهيره ومن يقفون خلف تحريضها ويريدون انتزاع نصر آخر في القاهرة بأي ثمن
تسير العلاقة على وتيرة من التذبذب والصعود والهبوط، وفي كل مرة تزدهر فيها ملامح أمل للتحسن التدريجي وتظهر تفاهمات وقواسم مشتركة بين القيادتين الحاكمتين في مصر والسودان يطفو من يعكرون المياه، وتبدو الروابط الرسمية أسيرة سلسلة من العقد غالبيتها تم اختلاقها لمنع حدوث تطور نوعي في العلاقات بين البلدين.
تبدو الرياضة فرصة مناسبة للمزيد من التسخين لأن جزءا كبيرا من جماهير المشجعين في أي بلد ينجرف وراء الشعارات ويطرب للحماس الزائد ويرى أن دفاعه عن فريقه أشبه بدفاع عن وطن، وهو المنحى الذي أخذته مباراة الهلال والأهلي.
حسنا فعل المسؤولون في الدولتين حين لم يتدخلوا مباشرة في المناوشات التي تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي، غير أن المدى الذي وصلته يحمل معالم قابلة لأن تتطور في اتجاه بعيد عن الرياضة، ويتوقف المدى الذي يمكن أن يصله ذلك على قدرة جماهير الأهلي المصري على التحلي بالهدوء واستقبال فريق الهلال بطريقة لائقة واقتصار التشجيع على لاعبيها وبلا تجاوز في حقوق لاعبي الهلال.
من المتوقع أن يتحول أي تجاوز، في حالتي الفوز أو الهزيمة، إلى شماعة تغذي التوترات المكتومة بين القاهرة والخرطوم، وقد يتخذها من يريدون استمرار الفتور ذريعة لتحويله إلى أزمة جديدة يمكن أن ينساق وراء تبعاتها مجلس السيادة الحاكم، في ظل الوضع الحرج الذي يعيشه مع القوى المدنية الساعية لاستلام السلطة الأيام المقبلة.
على النظام المصري أن يكون حكيما وأكثر حرصا على خروج هذه المباراة بسلام وبالشكل اللائق له، ويستفيد من التجربة السابقة مع الجزائر في تصفيات كأس العالم 2010، حيث نشبت أزمة بسبب مباراة في كرة القدم سرعان ما لاكتها الألسن من خلال وسائل الإعلام في البلدين، وكادت تفضي إلى أزمة سياسية ممتدة.