عصر النهضة العراقي

لم تتعرّض طبقة وسطى في بلد ما للتبدّد والنفي، كما تعرضت الطبقة الوسطى في العراق، تلك التي أُجبرت على مغادرة بلدها وفق هيكلية للهجرة التي تكاد تكون ممنهجة ومتواصلة، منذ انهيار العهد الملكي في العام 1958 حتى يومنا، عندما اضطر الليبراليون من الأطباء والمهندسين والمحامين ورجال الأعمال وأساتذة الجامعة والمثقفين وغيرهم إلى المغادرة النهائية والبحث عن أوطان بديلة في أرض الله الواسعة، بعد أن سبقت ذلك هجرة قسرية ظالمة لليهود العراقيين، تلتها هجرات متعاقبة لأفراد الطبقة الوسطى من الوطنيين والقوميين واليساريين حتى الهجرة الكبرى التي حدثت في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق. وبين هجرة وهجرة كان ثمة الكثير من الأحداث والعوامل التي عصفت بالعراق وجعلت منه حالة استنزاف دائمة للكفاءات والعقول والمواهب الجبّارة على مدى أكثر من سبعين سنة حتى يومنا هذا الذي نشهد فيه تبدّدا خطيرا للوطنية العراقية وتفتت اللحمة المجتمعية وهيمنة قوى الإسلام السياسي الموالية لإيران.
لقد أدت تلك الهجرات المتتالية إلى تشكل ما يمكن أن نطلق عليه طبقة الظل الوسطى في الخارج، تتكوّن من مئات آلاف العلماء والأطباء والمهندسين والمحامين ورجال الأعمال والمثقفين الذين تبوأوا مناصب ومراكز مهمة في أوطانهم البديلة وحققوا مكانة مرموقة نتيجة اجتهادهم وحرصهم على تطوير مشاريعهم الشخصية، لكن مع ذلك بقي العراق الأم يسكن تحت جلودهم ويعرّش في ضمائرهم وقلوبهم ويأكلهم الحيف عليه وعلى ما حلّ به من محن ورزايا.
لقد بدأت طبقة الظل هذه تتشكل بوضوح أكثر وتزداد وشائجها وتتجسد لحمتها في العقدين الأخيرين، على الرغم من انتشارها الجغرافي الواسع في عشرات البلدان، ويعود هذا التشكل لسببين رئيسيين، أولهما تكالب المخاطر الجسيمة على العراق الأم أكثر من أي وقت مضى، وثانيهما انتشار وسائل التواصل التقنية الحديثة التي أتاحت لملايين العراقيين في الخارج التواصل في ما بينهم والتعريف بمنجزهم وتبادل همومهم الوطنية ومحاولتهم إقامة ما يمكن أن نسميه الثقافة العراقية الرديفة ومؤازرة بعضهم البعض.
لكن على الرغم من ذلك بقيت شرائح واسعة في المنافي خارج دائرة الضوء، إما لزهد أصحابها بالشهرة والتعريف وتركيزهم على مشاريعهم الخاصّة، وإما لعدم وجود مؤسسات ناشطة تعمل على التوثيق والمتابعة والتعريف من أجل الاحتفاء والتكامل وإدامة الصلة الوطنية. حتى خرج علينا الشاعر والإعلامي العراقي الناشط عبدالحميد الصائح بمشروعه الرائد والمبتكر الذي أسماه “مشروع عصر النهضة العراقي” الذي أراد به شحذ الوشائج وتسليط الضوء شخصيات فاعلة ومتفوقة في مجالاتها، بعضها معروفة للجميع وبعضها الآخر يتوارى خلف أستار التواضع والقناعة والسمو الأخلاقي، وحتى لا نفجع بين الحين والآخر بنبأ رحيل فلان العالم أو فلانة الفنانة العظيمة ونبدأ بتعداد مآثرهم وإنجازاتهم وسط مشاعر الأسى والحزن.
لذا كان مشروع عبدالحميد الصائح مشروع حياة قبل أن يكون مشروع وطن، فأن نحتفي بالأحياء من مبدعينا في جميع المجالات ونرفع القبّعة لإنجازاتهم في خدمة الإنسانية قبل الوطنية العراقية، لهو حاجة وضرورة ملحّة لتجسيد ملامح تلك الوطنية، كي لا ييأس عراقيو الداخل من المستقبل طالما ظلت تلك الوشائج مترابطة ومتّصلة. يقول الصائح في حيثيات مشروعه “لا تَخف من الأسئلة، لأن الأسئلة هي التي أنتجت الحضارة والعلمَ والدينَ والفن والجمال. اقرأ عن أي شيء، معك جهاز الهاتف ومعك وسائل البحث الميسرة عن أي موضوع تختار، هناك عراقيون يقضون الليل والنهار حتى يوصلوا لك أفكارهم وجهودهم ولا يصلونك فتعال إليهم.. اقرأ ملحمة كلكامش، والخليقة البابلية، اقرأ القصص والروايات وجادل بما يمليه عليك عقلك الثمين”.