عزف منفرد لعلبة ألمنيوم تائهة
وهذه حيرة من حيرات النادل الطيب عبدالله، حيث دعبلَتْهُ الأيام صوب حانة لطيفة مزروعة وسط ربة عمّون الجميلة، وتشيل فوق ظهرها مسمى إفرنجيا هو كيت كات الذي سيعيدك إلى أيام شحيحة كانت، لكنَّ طعمها يبقى لابطاً فوق اللسان مثل شوكولاتة الفقراء.
ينفتح مساء الحانة العليل على حشد أدباء فنانين رسامين شعراء، أنواتهم تنمو وتتضخم كلما عبّوا أجوافهم العطشى بمخمور العنب والرزّ والتمر. مائدة العراقيين تريدُ موّالاتٍ رافدينية الهوى والنوح، وموائد الشام وما حولها تتشهى وتتشاجن مع الحلبيات المذهلات، فيأتي عبدالله بشيء عجب تعشقه الناسُ جلُّها، فتتقارب الموائد وتتراشق بما تبقى من ابتسامات الليل، وترنّ الكأس بالكأس والشعر بالشعر والبهجة بالبهجة المستلة من مصطبة الإحتياط، على سلّم عذب لذيذ يسيل عسلاً ذهباً سلسا من حنجرة الكوكب أمّ كلثوم ووصلة “رجّعوني عنيك لأيامي اللي راحوا” فتدور بك الدنيا مثل خربشات جمال البستاني صائد الكناغر، لتحطّ بواحدة من خواصر أبي نواس ببغداد العباسية العليلة، وترى في ما يرى النائم الحالم، تمثال النواسيّ الجليل، وقد ترجّل من فوق دكته وحطّ على مائدتك وصاح اسقنيها أيها الدرويش الزكيّ، فتفعل وقرب رنة أول كأس طافحة بالحنين، ستصحو على صوت النادل الطويل أبي مايكل، لتجد نفسك بمواجهة شرسة مع منظر فاتورة الحساب الثقيل.
صحبُكَ الرحماء قد يسألونك عن سر صفناتك وهدءاتك وسكناتك. سيغطّونك بالصمت الجميل حتى لو رأوا جمرة سيكارتك تدبي على باب جلدك.
نتفقُ على الخبز المحمّص الطيب، فهو من هبات ونعم الحانة علينا، وصحونه لا تكلّف الجيب إلّا وسعَهُ، لكنّ سماء المائدة ستغيّم وتتلبّد إنْ عجنّا الخبز البريء بروث السياسة. سيجري بعد قليل نسيمُ أيلول، ويجلب معه قطار حنينٍ من قوته يكاد يعوي.
لم أقع حتى اللحظة على كنه اللذة الكبرى التي تصنعها علبة ألمنيوم مهجورة، وهي تتدعبل من أخير الزقاق الصاعد نحو جبل عمّان لتنام تحت شرفة الحانة.
ستمرُّ من تحت الشرفة أُمكَ الطاهرة وتقول لك ترجّل يا وليدي، فلقد آن لك أن تستريح.
لقد ثقّبتْك عيون المتفرجين الأوغاد.