عزة بدر تخوض تجربتها متحررة من حدود الأجناس

استطاعت الكاتبة والأكاديمية عزة بدر أن تجمع بين الشعر والقصة القصيرة والرواية وأدب الرحلات والنقد والصحافة، حيث تعمل في مؤسسة روز اليوسف العريقة، فضلا عن نشاطها المستمر في تنظيم الندوات والملتقيات، أبرزها ندوة “تواصل” الشهرية بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضويتها في لجنة السرد القصصي والروائي في هذا المجلس، وعضويتها في نادي القصة، والنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر، وغيرها من الأنشطة الفاعلة، فاستحقت – عن جدارة – نيل جائزة الدولة للتفوق في الآداب عام 2024.
نشأت عزة بدر بمدينة دمياط أين حصلت على تعليمها قبل الجامعي، لتنتقل إثر ذلك إلى القاهرة حيث حصلت على الماجستير في الإعلام من قسم الصحافة والنشر من كلية الإعلام جامعة القاهرة عام 1990 عن رسالتها “مجلة الثقافة 1939–1953 دراسة تاريخية وفنية” بتقدير ممتاز، وواصلت بدر بحوثها الأكاديمية لتحصل عام 1995 على الدكتوراه في الإعلام من كلية الإعلام جامعة القاهرة عن رسالتها “المجلات الأدبية في مصر من عام 1954–1981 دراسة تاريخية وفنية”.
وتمكنت بدر من خط تجربة أدبية تضاهي تجربتها الإعلامية، إذ كتبت في الرواية والقصة وأدب الرحلات وحتى الدراسات النقدية.
ونتوقف سريعا عند بعض المحطات التي تبرز وجوه عزة بدر الإبداعية في بعض مجالات الأدب والنقد.
تجربة الرواية
من خلال روايتها الأولى “في ثوب غزالة” تضيف الكاتبة عزة بدر إلى تجربة الغربة عن الوطن، إبداعا جديدا من خلال بطلة الرواية أو الساردة أو الذات المبدعة هدى عبدربه، التي سافرت عروسةً للحاق بزوجها (باسم) الذي يعمل في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، بعد أن جسدت لنا معاناتها وغربتها داخل الوطن، وبعد أن قدمت لنا مشاهد من معاناة الراغبين في السفر أمام السفارة أو القنصلية السعودية بغاردن سيتي بالقاهرة، وكيف تُلقى جوازات السفر من الشبابيك أو النوافذ لهؤلاء الذين يبيتون أمام مبنى القنصلية، والتعليقات التي تنتقد هذا السلوك القنصلي من جهة أخرى.
والمثير في الأمر أن الساردة جسدت معاناتها داخل الوطن في الصفحات الأولى من الرواية، بطريقة أكثر درامية من تجسيد معاناتها خارج الوطن أو في بلاد الغربة، ولكن مع ملاحظة أن المعاناة داخل الوطن كانت معاناة جماعية، أي معاناة المجموع، أي مجموعة الأفراد الذين يبيتون أمام مبنى السفارة أو القنصلية للحصول على التأشيرة، بينما جاءت معاناتها في الغربة معاناةً فردية، أو نفسية مع أنها تمثل شريحة من الشرائح المغتربة عن هذا المجتمع الجديد بالنسبة لها، في الوقت نفسه.
ومما خفَّف من وطأة المعاناة في غربتها الجديدة، اندماجُها في المجتمع الجديد وتعرفها على عدد من بناته مثل: هند وسُعدى وسلوى ووفاء وفتنة (الفلسطينية)، فضلا عن جارتها المصرية (المنصورية) والباكستانية، بل دخولها في مغامرة من أجل صديقتها السعودية سُعدى المطلقة، ثم وقوعها في حب فهد الزوج السابق لسُعدى، ثم ترقبها لمولودها الأول الذي بدأ يتحرك في أحشائها.
إن الساردة تتمع بحس سياسي ووطني فطري، ويتضح هذا جليا في حوارها مع جارتها فتنة الفلسطينية، فعندما رأت العلم الفلسطيني يرفرف في إحدى الصور، سألتها قائلة:
ـ فتنة.. ألم تفكري بالرحيل إلى غزة؟
ـ وماذا أفعل في غزة؟
ـ تعملين هناك.. حتى تتسع النواة فتصبح وطنا؟
فترد عليها فتنة في نبرة أسى ويأس قائلة: هل تصدقين ذلك حقا؟ أي وطن هذا المخنوق المحاصر من كل الجهات بإسرائيل، إنه كمين وليس وطنا يا هدى.. أبي وحده هو الذي يسافر إلى أهله في الضفة لأنه شيخ فان، أما والدتي فهي تخشى من سفر إخوتي.. إنهم يعتقلون الشباب حتى سن الأربعين.. لن تمكننا إسرائيل من بلادنا صدقيني.
فتسألها هدى سؤالا له مغزاه، إنه سؤال المستقبل، ليس مستقبل فتنة فحسب، ولكن مسقبل مئات الآلاف، بل الملايين من الفلسطينين الذين يعيشون خارج حدود أرضهم السليبة، تسألها: وما العمل؟ ستظلين هنا؟
ولأن مستقبل الأرض الفلسطينية ليس واضحا أمام فتنة، وليس لديها أمل قريب في العودة، فترد عليها قائلة: إذا ضاقت بنا سبل العيش هنا، سنرحل إلى الأردن معنا وثيقة سفر، ولكن أخي الأكبر معه الجنسية من هنا، إننا نعول عليه كثيرا.
هذا نمط من تفكير بعض الفلسطينيين في قضيتهم، بعد أن يئسوا من حلها حلا عادلا، استطاعت الساردة أن تثير ذلك من خلال الحوار مع فتنة، لتلقي الضوء على معاناة فلسطينيي الخارج، وبطبيعة الحال فإن طبيعة الرواية التي تدور معظم أحداثها على أرض سعودية، لا تسمح بنقل أو تصوير معاناة فلسطينيي الداخل، ويكفينا هذه اللمحة الخاطفة (في ص 122) من خلال هذا الحوار الحي لتصوير المعاناة النفسية للإخوة الفلسطينيين.
قدمت لنا عزة بدر بعض جوانب التنوع التقني في أسلوب كتابها عن طريق الذات التي تخاطب غيرها في ما يشبه الاعتراف، أو تخاطب نفسها في ما يشبه النجوى والمونولوغ، أو تخاطب القارئ في ما يشبه التقرير والديالوغ، وقد تتواصل مع أشباهها بوساطة الرسائل المكتوبة (مثل رسالتها إلى أستاذها المشرف على الرسالة الجامعية) أو ضمير المتكلم المباشر، وكلها من أساليب أو تقنيات السرد الحديثة في الرواية العربية.
قصص مختلفة
كما كتبت بدر في مجال القصة القصيرة، إحدى وعشرين قصة قصيرة تضمها المجموعة القصصية “أعناق الورد” وهي قصص مفروشة معظمها بالورود والأزهار والياسمين والرياحين، وشتى النباتات، وكأننا في حديقة أو بستان من الكلمات.
وليس معنى ذلك أن القصص تتغنى بالطبيعة، وبالجمال، والصفاء، ولكنها قصص تغوص في النفس الإنسانية، متخذة من انعكاس الطبيعة وخاصة الأزهار والورود والرياحين، على النفس البشرية، عالما أثيرا لكاتبتها، كما أنها تلجأ أحيانا إلى عالم الكاريكاتير أو الفانتازيا، لتكبِّرَ، أو تقزِّمَ لنا واقعًا تود أن تحدثنا عنه.
في قصة “دنيا وآخرة” ـ وهي من أهم قصص المجموعة ـ لا نجد وردا أو أزهارا، وإنما نقرأ تاريخ العائلة المسرود من خلال (كِلِيم شعبي ـ بكسرِ الكاف) أو سجادة قديمة مصنوعة أو منسوجة من بقايا أقمشة ملونة. كل قطعة قماش تسرد تاريخا معينا، تسترجعه الساردة، فهذه القطعة من النايلون تنبئ بأن الأم قد احتفلت بمولد الساردة، بل كل قطعة قماش لها دلالاتها في تاريخ العائلة، فقطع النايلون المرصعة بجوار بعضها كأهرامات صغيرة متجاورة والتي امتدت فيما بينها شبكة من الخيوط المتواصلة بغير انقطاع، توحي بالحنان الذي تدفأت به الساردة وتلك المحبة التي أحاطتها في صغرها. وذلك الهرم الصغير من قماش الكاروهات يؤكد تغير زي المدرسة من مرحلة إلى مرحلة أخرى.
ومن خلال تأمل الساردة لقطع قماش السجادة (أو الكِليم)، يقفز تيار الوعي، وتستحضر أيام مدرستها وهي تحيي العلم بحماس، فكون أن هناك قطعة قماش من مريول المدرسة تترصع به السجادة، يعني لدى السادرة الكثير من تاريخها وتاريخ العائلة، بل تاريخ الوطن. (تتقاطع في عيني أهرامات القماش المثبتة بعناية فوق مساحة كبيرة من البياض، هل قمت بخدمة الوطن والشعب، كما كنا نهتف في جماعة المرشدات في فناء المدرسة، لا يوجد بأهرامات القماش ما ينبئ عن شيء).
هكذا ومن خلال تأمل قطع القماش بالسجادة القديمة، يتداخل التاريخ الشخصي والتاريخ العائلي لتلك العائلة الفقيرة البائسة حيث تحتفظ الأم بقطع القماش الجديدة عند تفصيل أي شيء جديد، فضلا عن قطع القماش القديمة التي تستخلصها من الأثواب البالية، لتصنع سجادتها. ومن خلال هذا السرد نكتشف وفاة الأخ الذي كان الترزي يفقد سيطرته تماما على قماش بنطلوناته حيث كان ينمو بشدة مخترقا السقف.
هنا تدخل فانتازيا الموت عالم القصة، حيث يصعد الأخ إلى عنان السماء، ولم نره بعد ذلك أبدا (بقيت أمي معلقة الأبصار شاخصة إلى السماء، نتطلع جميعا إلى الثغرة التي تركها في سقف الحجرة).
ويتكرر هذا المشهد مع جارتهم المَسيحية “انجيل”، فترتدي الأم السواد عاما كاملا، وهو ما قرأته الساردة من خلال قطع القماش السوداء الموجودة بالسجادة. بل قرأت طقوس الدفن المسيحية من خلال سؤال الأب للأم عند عودتها من الكنيسة: ماذا يرتلون؟ قالت بغموض: لا أدري، يقسمون بالأب والابن والروح القدس، وأخذت تبكى أنجيل التي تركت حجرتها المكدسة بالأنفس والأطفال والأقارب والأحباب.
ولم تنس الساردة أن تؤرخ من خلال قطع الأقمشة لليلة زفاف أختها حيث بدت بقعة دم كبيرة على هرم من الشاش الأبيض طوته أمها بعناية فائقة ليلة الزفاف، ومع توالي الأيام أضافته إلى سجادة العائلة التي تتسع رقعتها يوما بعد يوم.
وتتوالى أهرامات القماش أمام عيني الساردة، حتى تصل إلى مشهد دفن الأم التي أوصت بأن يكون كفنها بسبع طبقات، وعندما أخبرها الأب بأن هذا لا يمكن توفيره، ويكفي أن يكون الكفن من طبقة واحدة، غضبت عليه غضبا شديدا وقالت له: قلبي غاضب عليك دنيا وآخرة (ولعل عنوان القصة قد اقتطف من هذه اللقطة).
وفي الصباح تموت الأم، ويبكى الأب، ولم يجدوا سوى جلبابها لتُكفَّن به، وكان من طبقة واحدة، إن غطى قدميها انكشفت رأسها، وإن غطى رأسها كشف قدميها، ولم يملك الأب إلا أن يخلع جلبابه (الذي كانت الأم ترتقه كثيرا من قبل) ليكفنها به. وتنهي الساردة قصتها بسؤال مؤلم: (هل كانت تعرف أن هذا الجلباب هو كفنها، الذي ستتغطى به إلى الأبد؟).
عند هذا الحد تتوقف أهرامات قماش السجادة البالية (أو الكليم الشعبي) عن البوح. وكأن الساردة لحظة حزنها على فراق أمها تستحضر تاريخها الشخصي والعائلي، من خلال انكفائها على عالم الكِلِيم تستنطقه، فيتحول إلى كَليم (بفتح الكاف) ويبوح لها بأسراره، وسرعان ما تستجيب لها قطع القماش البالية قبل أن تنزوي في طيات النسيان، وكأن التاريخ الذي تحمله السجادة بين أهرامات الأقمشة يتوقف عند وفاة الأم. فبرحيلها لم تعد هناك إضافة إلى قطع الأقمشة، ويأخذ (الكليم) أو السجادة في الانكماش والتضاؤل رويدا رويدا، أمام السجاجيد المصنوعة خارج المنزل، والتي لا تحمل إلا أشكالا ورسومات هندسية، لا روح فيها ولا حياة.
إنها قصة غير تقليدية ـ كما رأينا ـ تلعب فيها ذاكرة الألوان، مع ذاكرة الساردة، وذاكرة القماش دورا أساسيا. وإذا كانت الأزهار والورود والرياحين قد تنوعت في بعض القصص، فإن البديل هنا تنوع الألوان، وقطع القماش، في تشكيل هندسي رائع، استطاعت الكاتبة أن تجسده من خلال الكلمات. وقد جاء ضمير المتكلم ليضيف حميمية إلى السرد القصصي عند عزة بدر، فهو أقرب إلى البوح الوجداني الحميم.
لقد قبضت القاصة على أعناق الورد في قصة “أعناق الورد”، وفي قصة “دنيا وآخرة” استطاعت أن تقبض على أعناق قطع القماش التي تتشكل منها السجادة أو الكِليم الشعبي خلال رحلة تأملها له، لحظة وفاة الأم.
وهكذا تتنوع قصص عزة بدر في مجموعتها “أعناق الورد”، والتي تدل دلالة أكيدة على أن للكاتبة صوتها القصصي الخاص والمتفرد في عالم القصة النسائية بين كاتبات جيلها.
أدب الرحلة والبحوث
لم يعرف الأدب العربي القديم كتبا في أدب الرحلات بأقلام نسائية، أو بأقلام المرأة الأديبة عموما، ولكنه عرف كتبا ورحلات بأقلام الرجال من أمثال ابن بطوطة وابن جبير وابن خلدون، وغيرهم.
أيضا لم يشهد الأدب العربي الحديث الكثير من كتب أدب الرحلات التي كتبت بأقلام نسائية، ولكن قرأنا لرفاعة الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” واستمتعنا بـ“حديث عيسى بن هشام” للمويلحي، و”ذكريات باريس” لزكي مبارك، وعرفنا سندباد حسين فوزي ورحلات أنيس منصور وحسين قدري وخليل النعيمي وغيرهم.
وعندما نحاول رصد ما كتبته المرأة العربية في هذا المجال لا نجد إلا القليل، ومن هذا القليل على سبيل المثال، أميرة خواسك وكتابها “رحلات بنت بطوطة” التي رصدت فيه انطباعاتها عن عدة رحلات قامت بها إلى إسطنبول وإيطاليا وباريس ولندن ونيويورك والاتحاد السوفيتي السابق، والمغرب وتونس وفيينا وأمستردام وسويسرا وألمانيا وغيرها. وكذلك رحلات الكاتبة سلوى الحمامصي التي أتاح عمل زوجها دبلوماسيا، السفر إلى دول عدة، سجلت من خلالها أعمالها في أدب الرحلات.
وربما تعود قلة كتابات المرأة عموما في أدب الرحلات إلى قلة أسفارها في القرون السابقة، عما نراه اليوم، وإذا سافرت فلابد من وجود (محرِم) معها، الأمر الذي كان يحد من انطلاقاتها وسياحتها الحرة المبدعة داخل البلد الذي تزوره أو تقيم فيه.
ومع تطور الحياة وانفتاح العصر وتمكين المرأة من التعليم والعمل والسفر والسياحة، بدأ ينتشر أدب الرحلات الذي تبدعه المرأة.
وبكتابها الجديد “رحلات بنت قطقوطة” تضيف الكاتبة عزة بدر، جديدا إلى عالم أدب الرحلات الشائق الذي تقدمه الكاتبة العربية بعامة.
كما ألفت بدر في مجال الدراسات الأدبية والنقدية كتابا بعنوان “حيرة نجيب محفوظ في قصصه المجهولة”، تتوقف فيه أمام قصص محددة في عالم نجيب محفوظ، منها: “العرافة”، و”الحالم بسوق العيش” و”حزن وسرور” و”حكمة الحموي” و”الشر المعبود”.
وتؤكد لنا بدر أن بعض شخصيات هذه القصص ممتدة في أعمال وروايات أخرى لنجيب محفوظ، وعلى سبيل المثال قصة “القيئ” تُعيد علينا قصة محجوب عبدالدايم الانتهازي المدمر في “القاهرة الجديدة” مع اختلاف في الدلالة والتفاصيل.
إن ما تراه عزة بدر قد صنع عبقرية نجيب محفوظ، هو موقف الشك الفلسفي، والتفكُّر في حقيقة الإنسان، والفن في تعبيره عن الموجودات، وعن طبيعة الإنسان الطامحة لتحقيق جنته على الأرض.