عبق ليستر في كل مكان

الأحد 2016/07/03

هي حكايات جديدة من قصص التألق الكروي الخالص في المواعيد الرياضية الكبرى، قصة جديدة عاشت فصولها ملاعب كرة القدم في فرنسا.

الزمان يشير إلى أول أيام شهر يوليو من العام السادس عشر بعد الألفين، والمكان هو ملعب مدينة ليل الفرنسية، أما الحدث فهو صعود منتخب ويلز المغمور و”الضعيف” إلى المربع الذهبي لكأس أمم أوروبا على حساب أحد أقوى المنتخبات المرشحة لنيل اللقب الغالي، ونعني بذلك منتخب بلجيكا متصدر تصنيف الفيفا لفترات طويلة.

هو حدث جلل ولا يحدث دوما، إذ كيف لمنتخب يشارك لأول مرة في بطولة قوية ولا يوجد له أيّ مكان ضمن الخارطة الكروية للقوى التقليدية في القارة العجوز أن ينحت لنفسه مسيرة رائعة واستثنائية، وينطلق رويدا رويدا نحو إصابة الهدف والتدرج بخطى ثابتة إلى الأدوار المتقدمة لأمم أوروبا؟

لقد فعلها منتخب ويلز وأطاح بفضل ثلاثية رائعة وممتعة ومستحقة بمنافسه البلجيكي، فكذّب كل التكهنات وانتزع الإعجاب من الجميع واستحق أن يجمع العلامة الكاملة، فكتب تاريخا جديدا ببياض ناصع وأحرف من ذهب قبل أن يواصل السير في رحلة الإعجاز والإنجاز عندما يلاقي في الدور نصف النهائي منافسا جديدا قويا ومهابا، وهو المنتخب البرتغالي، لكن مثلما تم تخطي عقبة بلجيكا بسلام، فإن تجاوز العقبة البرتغالية ليس بعزيز على منتخب ويلزي حيوي وحركي، ممتع ويضفي على كل محبيه ومتابعيه مسحة من الإثارة والفرحة الممزوجة بغبطة وليدة كل إنجاز جديد يحققه هذا المنتخب الفتي.

هو منتخب مغمور، لم يكن أحد يتوقع أن يصل إلى دور الأربعة الكبار في بطولة الكبار، لكن هذا المنتخب استفاد كثيرا من وجود نجمه الأول وقائده الملهم غاريث بيل نجم ريال مدريد، فغاريث مهد طريق التأهل في المباريات الأولى وسجل أهدافا حاسمة غاية في الروعة، فصبغ على بقية زملائه طابعا من “الحرفنة” والدقة والروح الانتصارية العالية.

بيل فعل ذلك بمساعدة نجم أرسنال الإنكليزي أرون رامسي الذي كان من أفضل لاعبي الكتيبة الويلزية الممتعة، فتحقق المطلوب وزيادة في انتظار مواجهة تاريخية وطريفة في الدور نصف النهائي للمسابقة بين الصديقين الحميمين في نادي ريال مدريد الأسباني أي بين رونالدو البرتغالي وبيل الويلزي القادر على قطع الطريق أمام صديقه والوصول إلى أقصى مدى هذا الحلم الويلزي المستحيل والجميل.

حلم ويلزي تحقق وتجسد بالفعل، وأيّ إنجاز يأتي بعد ذلك سيكون تكملة لفرح تاريخي لا يتكرر باستمرار، هذا الحلم قابله حلم إن تحقق سيكون أكثر إثارة وروعة واستثنائية وكسرا للقواعد الرياضية والكروية وكذلك الديموغرافية والجغرافية.

حديثنا هنا هو عن منتخب أيسلندا الصغير والفتيّ و”المتواضع″ فيما مضى من زمان، هذا المنتخب سيواجه الليلة منتخب فرنسا مستضيف البطولة، وقد يسير منتخب أيسلندا على أثر منتخب ويلز ويفعلها بدوره ويطيح بالمنتخب الفرنسي خارج أمم أوروبا، ليكتب فصلا تاريخيا نادرا للغاية من فصول “جنون” كرة القدم ورفض المنطق العادي للأمور والأشياء.

منتخب أيسلندا قادر على ذلك، فالمنتخب الذي يفلت من قبضة البرتغال في الدور الأول ويزيح منتخب إنكلترا العتيد من طريقه في الدور ربع النهائي هو أهل لدخول التاريخ الكروي وإقصاء منتخب فرنسا.

أيسلندا التي لا يصل تعداد سكانها إلى بعض مئات الآلاف، وعدد المجازين في كرة القدم فيها قد يعدّ على الأصابع نجح فريقها في قلب كل المعطيات وثبّت نفسه في بوتقة المنتخبات الرائعة والمتميزة، والفضل كل الفضل في ذلك يعود إلى قوة المجموعة بقيادة مدرب محنك وماهر يدعى لارس لاجبارك قلب كل المعطيات رأسا على عقب، وبرهن على أن القوى التقليدية في عالم كرة القدم لا تفوق في شيء رغم الزاد وقوة العتاد المنتخبات الفتية والمغمورة، ومثلما فعلتها ويلز ضد بلجيكا فإن منتخب أيسلندا لن يكون بلا شك “لقمة سائغة” أمام منتخب فرنسي بدأ بالفعل في قراءة ألف حساب من تواصل ثورة “البركان” الأيسلندي.

وإمعانا في مواصلة الحلم الفريد، ربما، قد يتحفنا هذا اليورو بنهائي فريد من نوعه يجمع بين هذين المنتخبين في عام استثنائي ومميز في أوروبا شهد قبل هذا الموعد الأوروبي قصة فريدة ورائعة كتبها نادي ليستر سيتي الذي قلب المعادلة في إنكلترا، وسحب البساط من تحت أقدام الفرق القوية، فتوج موسمه بإحراز لقب نادر جلب اهتمام وتقدير العالم بأسره.

اليوم، عبق ليستر منتشر في كل مكان بفرنسا، ومنتخبا ويلز أيسلندا يبدو أنهما اطلعا جيدا على قصة نجاح نادي ليستر التي باتت اليوم مصدر إلهام وتحفيز للجميع.

إنجاز ليستر الخرافي أكد أنه لا مستحيل في كرة القدم، وإن لم تفعلها أيسلندا ضد فرنسا فقد تفعلها ويلز في نصف النهائي ضد البرتغال.

وفي الختام، لا بد من العودة بالذاكرة 24 عاما للوراء لفهم الحاضر، ففي بطولة أمم أوروبا سنة 1992 جاء المنتخب الدنماركي من خلف مضمار السباق، حيث تم اختياره لتعويض منتخب يوغسلافيا الذي تعذرت عليه المشاركة في آخر لحظة، وبعد أن كان في البداية مجرد تكملة عدد بات في النهاية البطل والعريس المتوج باللقب.. ربما هو شذى ليستر الذي عمّ أوروبا قبل ربع قرن من الآن؟!

كاتب صحافي تونسي

23