عبدالسلام العجيلي.. ابن الفرات البسيط والمثقف الكوني

الكاتب يعد من أعلام سوريا المبدعين ومن أبرز كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي، وقد خاض تجارب حياتية وأدبية غنية ومتشعبة. 
الأحد 2024/12/29
بروح الهاوي مارس الطب والكتابة

حين تصل الرقة، المدينة التي أنجبت فارسا متفردا من فرسان القصة القصيرة، فإنها لا تمد أمامك بساط المدخل الفخم كما تصنع المدن الكبرى، بل تستقبلك كأي فتاة ريفية بثوبها الطبيعي البهيج، الذي يكمن جماله في بساطته وعبق تاريخه.

الرقة، بعيدة عن عدسة الإعلام، قريبة من عدسة القلب. تشعر بالألفة حين تتجول في ساحاتها وشوارعها، حيث يتوزع على أرصفتها القادمون من البادية والريف بأزيائهم وعاداتهم، يبيعون ويتسوقون قبل أن يرحلوا. ولا يمكنك القول إنك زرت الرقة دون أن تذكر كاتبها ومخلدها في أعماله الأدبية، الدكتور عبدالسلام العجيلي، الذي كان يجمع بين الطب والأدب برشاقة فريدة.

كان الدكتور العجيلي يستقبل مرضاه بشرح بسيط وبأسلوب الرقة المحكي، ثم يلتفت ليكمل حديثه معك بلغته المثقفة التي تمزج بين التراث والفكر الحديث. هذا الأديب، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 88 عاما بعد صراع مع المرض، ترك إرثا أدبيا وإنسانيا كبيرا، متوزعا بين الطب والأدب.

البساطة والصدق

بوكس

يعد العجيلي من أعلام سوريا المبدعين ومن أبرز كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي، وقد خاض تجارب حياتية وأدبية غنية ومتشعبة. في أدبه تمكن من تحويل الحكايات العادية إلى لوحات قصصية مبهرة، مستوحاة من التراث العربي ومزينة بروح العصر.

تناول العجيلي بيئته الفراتية الغنية بحب واعتزاز. كان التراث مصدرا أساسيا لإبداعاته، كما أغنته البيئة المحيطة في الرقة بألوانها وتفاصيلها. هذا التنوع الثقافي أتاح له صياغة أعمال أدبية عميقة، تتناول الإنسان وعلاقته بمحيطه، ما جعله قريبا من قلوب قرائه.

كان العجيلي ابن بيئة ريفية نصف بدوية، عاش طفولته وصباه في الرقة، ثم انتقل إلى مدن كبرى مثل حلب ودمشق، حيث درس وقضى سنوات شبابه. هذا المزج بين حياة الريف والمدينة منحه منظورا فريدا، فكتب عن الريف والمدينة من تجربة شخصية، لا من خيال متصور.

تأثرت أعماله بحياته الأولى في الريف، حيث البساطة والعفوية، وبحياته اللاحقة في المدن، حيث تعقيدات الحياة الحضرية. مزج بين الجانبين بمهارة، فجاءت كتاباته متنوعة تجمع بين الحس العاطفي المرتبط بالريف، والنظرة الفكرية العميقة المرتبطة بالمدينة.

ما يميز عبدالسلام العجيلي أنه لم يكن يكتب عن بيئته كغريب ينقل تفاصيلها، بل عاش تفاصيلها بحذافيرها. تأثرت قضاياه العاطفية والوجدانية بالفرات، فيما تأثرت آراؤه الفكرية ببيئات المدن التي عرفها في نضجه.

كانت حياته الريفية تحمل بساطة وصدقا ينعكسان في أعماله، بعيدا عن الزيف والتكلف اللذين يمر بهما الكثير من أدب المدن الكبرى. هذه الأصالة جعلت من نتاجه الأدبي مرآة تعكس صدق الروح الإنسانية.

العجيلي من الكتاب الكثيرين الذين كتبوا في مجال الأدب الساخر، لاسيما في البدايات الأولى لممارستهم الكتابة. كانت تدفعهم المفارقات والمتناقضات التي تثير العقل وتبعث على التأمل في ما حولهم، سواء الأحوال أو الأمور أو الأشخاص، هي المحرك الرئيسي الذي دفعهم إلى هذا النوع من الأدب.

في بداياته الأدبية كان الكاتب متفرغا للضحك، يتفاعل معه دون أن يتجاوز المظاهر الخفيفة أو الضاحكة إلى العمق المؤلم أو القضايا المؤسسة. وبمرور الزمن أصبحت نظرته للأمور أكثر نفاذا إلى الجوهر، ما جعل السخرية تتراجع لتحل محلها جدية أكبر في التعامل مع حقائق الحياة.

في سنوات دراسته الثانوية والجامعية كتب الكاتب العديد من النصوص الساخرة، شعرا ونثرا، في إطار “إخوانيات” كانت تدور حول علاقاته مع الآخرين. لم يكن في تلك الفترة مهتما بالنشر، ولم يكن مطالبا به. لذلك تراكمت لديه كتابات ساخرة لم تنشر، وربما لن تنشر أبدا، لأنها غالبا ما تتعلق بعلاقات شخصية قد يساء فهمها خارج سياقها وظروفها.

هاويا للأدب

◄ رمز للفكر النير الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة
رمز للفكر النير الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة

في الثمانينات كتب “فصول أبي البهاء”، وهي نصوص ساخرة تستند إلى أحداث واقعية لكنها تحمل مغزى اجتماعيا وأخلاقيا. كانت الشخصية المحورية في تلك النصوص أبوالبهاء، شخصية حقيقية عرفت بتناقضاتها ومرحها. ورغم الطابع الضاحك للنصوص، فقد عمد الكاتب إلى تحميلها معاني عميقة تتجاوز مجرد التسلية.

وبالرغم من ميل الكاتب إلى السخرية في بعض الأحيان، فإن الظروف السائدة في الأزمنة الأخيرة، حيث يسود السواد والمعاناة، جعلت من الصعب عليه أن يترك الجدية لينصرف إلى السخرية.

 يرى الكاتب أن القصة هي تحويل للكلام العادي إلى فن أدبي، وأنه حتى في محاضراته كان يعتمد على سرد الحكايات والقصص التي تنتهي برسالة فلسفية أو علمية أو سياسية، ما يعكس طريقته الفريدة في التعبير.

لم تكن علاقاته الشخصية مع الآخرين تعتمد على صفتهم الأدبية، بل كانت مبنية على دوافع إنسانية بحتة. ارتبط الكاتب بأصدقاء من مشارب مختلفة، بمن في ذلك الفقراء والمتشردون، لأن صفاتهم النفسية كانت الأقرب إلى قلبه. حتى في شعره، الذي كتبه في شبابه حين كانت تجاربه محدودة، كان يميل إلى القصص القصيرة ذات الطابع الحالم.

مع نضوج تجاربه وجد أن النثر يوفر مجالا أوسع للتعبير عن القضايا المعقدة التي لم يستطع الشعر احتواءها. لذلك تنوعت كتاباته بين المقالات والمحاضرات والقصص، وفقا للموضوع الذي يريد التعبير عنه.

يعتبر الكاتب أن كل ما يمارسه في الحياة هو نوع من الهواية، حتى عمله الطبي. كان يمارس الطب بروح الهاوي لا المحترف، حيث قضى نحو ثمانية أشهر من السنة في العمل الطبي، بينما خصص باقي الوقت للسفر داخل البلاد وخارجها.

الأدب بالنسبة إليه كان هواية أيضا، إذ لم يكن يقضي أكثر من ساعة أو ساعة ونصف الساعة يوميا في الكتابة، وكان يكتب فقط عندما يشعر بالرغبة في ذلك. السفر كان هوايته الثالثة، حيث عاش حياته اليومية كهاو لا يلتزم بأعباء الحياة أو مهامها الثقيلة.

الهواية الرابعة كانت الرياضة. في شبابه الجامعي ترأس لجنة الطلاب وأسس ناديا رياضيا مارس فيه لعبة التنس، لكنه لم يستمر في مزاولتها لاحقا. رغم ذلك، كان يحب المشي نهارا وليلا، سواء في بلاده أو في المدن التي يزورها، ليس طلبا للرياضة بل لأنه كان يشعر بالحاجة إلى الحركة.

في صباحاته كان يؤدي بعض التمارين الرياضية للوقاية من آلام الظهر التي نتجت عن حادث سير تعرض له في أواخر حياته. هذه التمارين لم تكن تستغرق أكثر من خمس دقائق، لكنه كان يكررها كلما داهمه الألم.

حصاد العمر

◄ ترك إرثا أدبيا خالدا يتجاوز الزمان والمكان
ترك إرثا أدبيا خالدا يتجاوز الزمان والمكان

في آخر حوار معه قال العجيلي في رده على سؤال محاوره وهو يشرف على الدخول في السنة الثامنة والثمانين من عمره، حين سأله كيف كان حصاد العمر في نظره، وهل حقق ما كان يطمح إليه في عهد الشباب؟ “هذه أمور -حقيقة- لا أشغل نفسي بها. أنا أعمل طوال ما أنا حي، ولم أضع لنفسي غاية أريد أن أصل إليها. بالطبع هناك أمور أحب أن أتمها، وأعمل لها من دون أن أجعلها مثلا أعلى. كل ما أستطيع قوله، إني عشت حياة قل فيها الانزعاج، وليس من إنسان يخْلص من الألم والعذاب في مسيرة عمره، ولاسيما إذا بلغ ما بلغت -أنا- من العمر. ثم إني خرجت من حياتي برضى من ضميري، أرجو أن يقترن برضا من الخالق سبحانه وتعالى.”

وسأله محاوره ماذا تقول في الخيبة؟ “سوء تقدير.” الفرحة؟ “تأتي مفاجئة، وأحيانا تأتي بعد تخطيط.” الحزن؟ “الله يبعدنا عنه.” الجمال؟ “الله يقربه منا.” التواضع؟ “طبع.” الاجتهاد؟ “ينتهي دائما بالنجاح.” الكسل؟ “ينتهي بالفشل.” السفر؟ “مشقة.”

وتواصلت الأسئلة الكاشفة، فأجاب عن سؤال ما هي الأكلة التي يفضلها العجيلي؟ “أنا رجل زاهد في الأكل. ما أراه أمامي آكله. لا أنتقي الأكل.” وعن اللون الذي يفضله؟ أجاب “كنت أفضل اللون الأخضر، فأصبحت أفضل اللون الرمادي.” أما عن الكتاب الذي يفضل قراءته؟ فيقول “في الوقت الحاضر أفضل قراءة كتب التراث.” وعن الطريق الذي يسلكه؟ أجاب “الطريق المستقيم.”

وعن الموقف الذي أثاره؟ يجيب “مواقف كثيرة. مخيفة!” وتابع الإجابة عن الأسئلة: متى تكون سعيدا؟ “السعادة غاية لا تدرك.” متى تكون بحاجة إلى القراءة؟ “أنا أقرأ بصورة دائمة. لا أحتاج إليها. دائما أنا قارئ ومستمر (في القراءة).” متى تكتب؟ “عندما أفرغ من أعمالي الأخرى. وعلى الأغلب في الليل.” متى تشعر بالاطمئنان؟ “حينما يكون الناس حولي مطمئنين.”

بقي أن أشير إلى أن الأديب الراحل عبدالسلام العجيلي هو رمز من رموز الأدب العربي، لم تكن حياته مجرد سرد لأحداث، بل كانت تجسيدا حيا لعلاقة الإنسان ببيئته وتراثه. استطاع أن يكون ابن الفرات البسيط والمثقف العالمي في آن واحد. ترك إرثا أدبيا خالدا يتجاوز الزمان والمكان، وسيبقى رمزا للفكر النير الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

 
رغم ميل الكاتب إلى السخرية في بعض الأحيان، جعلته الظروف السائدة في الأزمنة الأخيرة جدّيا أكثر

 

8