طلبة ما بعد السبعين يقاومون الشيخوخة بالعلم

السعي وراء العلم في الأعمار المتقدمة دليل على رغبة حقيقية في مقاومة الشيخوخة وكسر موجات الشعور بالتقهقر مع امتداد العمر.
السبت 2020/06/20
محمد عوضين: أبواب العلم مفتوحة أمام بني البشر وكبر السن ليس عائقا

يسعى بعض الناس إلى الاستفادة من إحالتهم على التقاعد بالعودة إلى مقاعد الدراسة من جديد وتحصيل العلم بجد وثبات دون النظر إلى مسألة التقدم في السن على أنها يمكن أن تشكل عائقا أمام حصولهم على درجات علمية أعلى من تلك التي حصلوا عليها في سنّ الشباب والكهولة.

القاهرة – لا يوجد ما يمكن أن يقف في طريق طالب علم حتى لو كان ذلك التقدم في السن، ففي الآونة الأخيرة ظهرت العديد من الحالات التي أثبت فيها أناس تقدمت أعمارهم وفق الفكر التقليدي السائد، أن طلب العلم لا تحده سن ولا يقتصر على مرحلة بعينها من مراحل الحياة.

وهناك نماذج عدة تكشف سعي بعض المتقدمين في العمر لتحصيل تفوق علمي يحظى بتقدير المجتمع.

وفرضت أزمة كورونا على الكثير من الأشخاص استعادة ماضيهم الدراسي، فمنهم من انهمك في القراءة والاطلاع في المطلق، ومنهم من حاول تقنين المسألة وصقل مواهبه بالدراسة المتخصصة في المجالات المحببة إليه.

وشجعت نظرة المجتمع الإيجابية هذه الفئة من الناس على استكمال طرق دروب العلم بلا خجل دون النظر إلى أعمارها.

ويبدو الأمر في مصر أشبه بموجة من موجات مقاومة النمط التقليدي للتقاعد، من خلال التعلم وتأكيد التفوق العلمي، سعيا للحصول على دراسات عليا في مجالات متنوعة.

وقال محمود عوضين، وهو موظف بالمعاش مواليد سنة 1944 يعيش بمدينة الإسكندرية، شمال القاهرة، إنه انتهى من تسجيل رسالة الدكتوراه في القانون الجنائي بجامعة الإسكندرية قبل بضعة شهور، وكان على وشك مناقشاتها لولا تأجيل الموعد بسبب ظروف انتشار وباء كورونا.

وكان الرجل سعيدا، وهو يستعرض تفاصيل رسالته حول الجنسية كأساس للقومية الفلسطينية، ذاكرا أنه قضى أكثر من عامين متنقلا بين المراجع والدراسات الأكاديمية ومصادر التاريخ والقانون لكتابة رسالته التي يُشرف عليها أساتذة قانون جنائي متميزون، وتُقدم باعتبارها الرسالة الأولى المتخصصة في تأكيد الجنسية الفلسطينية قانونا كأحد محاور مواجهة الفكر الإسرائيلي.

وبعيدا عن تفاصيل الرسالة نفسها، أكد عوضين لـ”العرب” أن تجاوزه منتصف السبعينات لم يحل دون رغبته المتأججة عاما بعد آخر في مواصلة التعلم والسعي لتحقيق حلمه بالحصول على الدكتوراه في القانون.

مشروع ما بعد التقاعد

لا حدود لطلب العلم
لا حدود لطلب العلم

تخرج عوضين من كلية التجارة جامعة القاهرة عام 1966، وعمل في وزارة الثقافة المصرية، لكنه كان دوما يشعر بأنه في حاجة إلى تحقيق حلمه السابق بدراسة القانون، فانتسب إلى كلية الحقوق وحصل منها على الليسانس (تعادل شهادة البكالوريوس) عام 1973.

ومن يومها وهو يعشق القانون ويعتبره العلم المفضل لديه، ما دفعه إلى الحصول على شهادتين في الاقتصاد والقانون الخاص، وظل طوال سنوات عمله الوظيفي يحاول اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه ثم يضطر إلى التأجيل بسبب كثافة العمل والتنقل من مكان إلى آخر حتى صار وكيلا للوزارة، قبل أن يخرج إلى التقاعد منذ خمسة عشر عاما.

سأل عوضين نفسه عما يمنعه من مواصلة السير في حلمه المؤجل، ولم يجد إجابة واحدة منطقية تمنعه، فواصل البحث عن مشروع رسالة غير مطروق واتفق مع أساتذة قانون على تسجيل ذلك المشروع، قبل أن ينتهي منه بنجاح تام منذ شهور قليلة.

وأوضح أنه كان على يقين من قدرته على مواصلة حلمه بعد أن وجد دعما وتشجيعا من العائلة والأصدقاء والدائرة المحيطة به، كما أن اعتياده القراءة منذ التخرج جعل الأمر هينا.

وأشار إلى أن نوافذ العلم منفتحة أمام بني البشر بلا أعمار، بل إن العلم في حد ذاته مطلوب من المهد إلى اللحد، وهو مطلوب في حد ذاته لا سعيا لمنصب أو وظيفة ما، وأي إنسان واع يستمر في رحلة التعلم بلا انقطاع.

واستعار عوضين أبيات شعر منسوبة للإمام الشافعي ليدلل بها على فكرته تقول “كلما أدبني الدهر.. أراني ضعف عقلي. وإذا ما ازددت علما زادني علما بجهلي”.

ويعد مصطفى والي نموذجا جديدا لطالب علم لا حدود لطموحاته العلمية، ما جعله يحصل على الدكتوراه بعد أن بلغ اثنين وسبعين عاما، وعمل لسنوات طوال كضابط شرطة وانشغل بحكم العمل عن هواية حياته بتعلم كل شيء، لكن قرب تقاعده دفعه إلى الحصول على الماجستير في القانون، ثم واصل الدراسة ليتمم حلمه بالحصول على الدكتوراه في القانون حول إمكانية تمكين المرأة من العمل البرلماني من خلال التشريع.

وأكد والي لـ”العرب” أن تفرغه للبحث والدراسة بعد التقاعد ولد لديه شعورا غريبا بأنه لم يتقاعد، ولم تصبه إحباطات مر بها زملاء آخرون نتيجة تقاعدهم.

ويبدو الإنسان في تصوره قادرا على العطاء، والحياة سلسلة لا تنقطع من العطاء لخدمة الناس جميعا، وليس أفضل من العلم وسيلة لتحقيق تلك الخدمة.

محبة العلم لا تفنى

ممدوح غراب محافظ الشرقية يكرم حسني هداهد، البالغ من العمر 82 عاما لحصوله على الماجستير في الأدب العباسي
ممدوح غراب محافظ الشرقية يكرم حسني هداهد، البالغ من العمر 82 عاما لحصوله على الماجستير في الأدب العباسي

قبل أيام قليلة، ورغم تقيد حركة المسؤولين في مصر نتيجة وباء كورونا، نشرت الصحف المصرية خبرا حول قيام ممدوح غراب محافظ الشرقية بتكريم حسني هداهد، معلم بالمعاش، ويبلغ من العمر 82 عاما لحصوله على درجة الماجستير في الأدب العباسي.

وكان لافتا أن الرجل الذي خرج إلى المعاش منذ حوالي 22 عاما لديه رغبة شديدة في استكمال تعليمه، حيث كان يعمل طوال حياته بشهادة متوسطة تسمى دبلوم المعلمين، في مدينة منيا القمحن شمال شرق القاهرة، ما دفعه إلى الانتساب إلى كلية الآداب قسم اللغة العربية بمدينة طنطا ثم تخرج عام 2014 وعمره 76 سنة، ما جعله أكبر طالب جامعي في تاريخ مصر.

وقال حسني هداهد خلال حفل التكريم في تصريحات نشرتها الصحف  إن أصعب ما واجهه في مشواره للحصول على الماجستير هو السخرية والتهكم من البعض الذين كانوا يعتبرون سنه يلزمه بالبقاء في البيت وانتظار النهاية، لكن إيمانه بإرادة الإنسان وحبه للحياة دفعاه إلى التشبث بحلمه وعدم التأثر والالتفات إلى الآراء المحبطة.

وذكر سمير سيد، مدير شؤون هيئة التدريس بإحدى الجامعات الكبرى في مصر، لـ”العرب” أن القانون المصري لا يشترط سنا محددا للتسجيل في الدراسات العليا في كافة الجامعات المصرية.

ولم تقتصر نماذج طلب العلم للمتقدمين في العمر على الحصول على دراسات عليا مثل الدكتوراه والماجستير، فهناك نماذج قضت عمرها كله دون تعليم ثم اتجهت إلى التعليم بعد السبعين، منها مثلا تخرج آمال إسماعيل عبده، سيدة من مدينة المنصورة، شمال القاهرة، من كلية الآداب قسم علم اجتماع، بعد أن بلغت الخامسة والسبعين.

وأفادت عبده بأنها تركت التعليم وتزوجت وعمرها 12 عاما ثم عاشت مع زوجها حتى رحل، وبعد تربية أبنائها وتزويجهم شعرت برغبة في تحقيق حلمها القديم باستكمال التعليم فقررت مواصلة الدراسة، وهي في الثامنة والستين، ثم حصلت على الثانوية العامة، وانتسبت إلى الجامعة لتدرس علم الاجتماع وتحصل على الليسانس، في الوقت الذي كان فيه بعض أحفادها يدرسون في الجامعة.

وأكد خبير التنمية البشرية الراحل إبراهيم الفقي، في كتاب له بعنوان “الثقة بالنفس” أنه التقى في أحد المؤتمرات برجل سأله المشورة، حيث كان حلم حياته الحصول على درجة الدكتوراه، لكنه تجاوز السبعين، ولا يدري هل يمضي في طريقه أم لا، فسأله عما يستغرقه تحضير الرسالة فقال أربع سنوات، فقال له ماذا سيحدث بعد أربع سنوات إن ظللت كما أنت، قال الرجل لا شيء سوى أنني سأبلغ من العمر أربعة وسبعين عاما، ثم سأله وماذا سيحدث بعد أربع سنوات إن مضيت في رسالتك؟ فقال سيكون عمري أربعة وسبعين عاما أيضا فقال له “إذن امضي في حلمك”، وبعد سنوات قابله الرجل وهو يحمل درجة الدكتوراه وعمره ست وسبعون عاما وكان سعيدا بما حقق.

وفي تصور علماء اجتماع، أن نماذج السعي وراء العلم في الأعمار المتقدمة تعكس رغبة حقيقية في مقاومة الشيخوخة وكسر موجات الشعور بالتقهقر مع امتداد العمر، والمحافظة على الحيوية الذهنية، والتقليل من الأعباء النفسية، وإحساس الشخص بأنه عضو نافع في المجتمع.

ويمر المحالون على التقاعد بمشاعر سلبية في البداية، مفادها الشعور المفاجئ بالفراغ والتعرض للعزلة الإجبارية، فضلا عن الإحساس بتراجع الأهمية وتعامل البعض معهم باعتبارهم أناسا يحتاجون إلى المساعدة.

غير أن تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة واتساع احتكاك الشعوب العربية بشكل كبير بالعالم الخارجي أسهما في تسرب مشاعر مقاومة الزمن، وحب الحياة إلى نفوس الكثير من العرب.

تغيرات لافتة

سامية الساعاتي: طلب العلم بعد سن السبعين يعكس تطورا في الوعي
سامية الساعاتي: طلب العلم بعد سن السبعين يعكس تطورا في الوعي

سمعنا بالسيدة التونسية منيرة حمزة التي حصلت على الدكتوراه في الأدب الفرنسي وعمرها خمسة وثمانون عاما، وعرفنا بأحمد جابر جاسم الذي حصل على الدكتوراه العام الماضي في تاريخ الأنساب من جامعة بغداد وعمره ثلاثة وثمانون عاما.

وترى منى سيد، خبيرة التنمية البشرية، أن قدرة الإنسان على تخطيط أحلام التحقق تتسع عند تقدم العمر، خاصة أنها تتشرب خبرات عملية وحياتية متراكمة.

وقالت سيد لـ”العرب” إن تنظيم الوقت يأخذ شكلا نموذجيا لدى كبار السن الذين تصبح لديهم قدرة على التفرقة بين المهم والأهم من الأمور، ما يجعلهم أكثر استفادة من أوقاتهم.

ويعني ظهور حالات اهتمام كبيرة لدى المتقدمين في العمر بالتحقق العلمي أن ثمة تغييرا في المجتمعات العربية خلال السنوات الأخيرة.

وكشفت سامية الساعاتي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس لـ”العرب”، أن تعدد النماذج الخاصة بطلب العلم بعد سن السبعين يعكس تطورا إيجابيا في الوعي، وإن كان لا يرقى إلى اعتباره ظاهرة عامة، بدليل أننا مازلنا نعد الحالات، فالأصل في الحياة هو أن الإنسان قادر على الحلم في أي سن، وحب الحياة يفرض عليه استمرار الأحلام.

وترى الساعاتي أن الأمر ما زال مختلفا في الدول الغربية والولايات المتحدة، إذ كثيرا ما نجد طلاب جامعات في أعمار متقدمة دون أن يثير ذلك دهشة أو استغراب الناس.

وأضافت أنها كانت تدرس في إحدى جامعات الولايات المتحدة وكان هناك قسم خاص بالطلبة كبار السن، فوق الخمسين والستين، حيث يتم منحهم تخفيضات معينة بالنسبة للرسوم الدراسية وتقديم تسهيلات لهم من باب الاحترام وليس من باب الشفقة.

وأوضحت الساعاتي أن المجتمعات الغربية لا تعتبر تعلم كبار السن أو المتقاعدين أو تسجيلهم للدراسات العليا أمرا لافتا للانتباه، لأنهم يرون أن الحياة يمكن أن تبدأ بعد الستين، بل وبعد السبعين في بعض الأوقات.

وترتدي النساء المتقدمات في السن في تلك المجتمعات ملابس مزركشة ومبهجة في المناسبات السعيدة، بينما تنظر مجتمعاتنا إلى من تجاوزوا الخمسين باعتبارهم فارقوا الشباب، وتركوا البهجة خلفهم، “إننا في حاجة ماسة إلى أن نغير تصورنا ومفهومنا للحياة”، وفقا للساعاتي.

وهناك من لا تتوهج قدراتهم الذهنية وتتحد رغباتهم مع إمكانياتهم إلا في عمر متقدم، فبعض الفنانين لا ينبغون أو يلمعون إلا بعد أن يتجاوزوا الستين من العمر.

17