طباق مديني

أكبر المفارقات هي تلك التي تستوطن فيها أسماء شخصيات فضاءات مدن غير متصالحة في العمق مع رمزيتها، بل تبدو مع مرور الزمن وكأنما تتبرأ من تراث أصحابها ممن كانوا مواطنين فاعلين في مصائرها وتحولاتها.
الأربعاء 2018/10/31
شارعان باسم الزعيم المهدي بن بركة الأول بالرباط والثاني بدمشق

ليست المدن في العمق إلا إرادة تشييدها، بما تعنيه من تطلع إلى مجاوزة أقدارها الزمنية المحكومة بالضرورة، إلى عتبات الحرية. وتاريخيا عاشت المدن الكبرى مسارات طويلة من الهدم والبناء، وإعادة التخطيط، كما تواءمت مع أساليب الفن والعمارة ونهج الاقتصاد ومآرب السياسة. فلجأت في أمثلة شتى إلى أن تمثُل لناظريها عبر طبقات تتدرج من العتيق إلى الحديث، فالموغل في المعاصرة، لكن عبر تلك التدرجات، غالبا ما سعى سكان المدن إلى محو آثار المكابدة الدافعة إلى التحول، من بقايا الحروب الأهلية والاحتلالات إلى الثورات والاحتجاجات.

وحين تكتب سير المدن فإن الكثير من هذه الأحداث تغدو أساسا للحكاية الممتدة، ولحمة تكوينها، الذي لم يرتق إلى سطح مرئي إلّا عبر إزاحة هياكل مندثرة، هي التي تفسر ما يلحق بمتون السير من صور فوتوغرافية لشوارع وساحات ومقاه وحدائق أضحت أثرا بعد عين، ذلك ما نجده في سير متعددة لبغداد والقاهرة ودمشق وبيروت والرباط وعمّان وغيرها.

وحين تختار المدن لشوارعها أسماء كتّاب ومفكرين وقادة تاريخيين ومناضلين وشهداء، فإنما تسعى لأن تتماهى مع ذاكرة تتجاوز حاضرها، إلى الحلم الجماعي بما سكن تلك الأسماء من شغف أدبي وفني وسياسي؛ ولعل اكبر المفارقات هي تلك التي تستوطن فيها أسماء شخصيات فضاءات مدن غير متصالحة في العمق مع رمزيتها، بل تبدو مع مرور الزمن وكأنما تتبرأ من تراث أصحابها ممن كانوا مواطنين فاعلين في مصائرها وتحولاتها. من هنا لا أتمثل ميدان طلعت حرب في القاهرة، مثلا، إلا باعتباره طباقا لجوهر حلم طلعت حرب الحضاري.

قبل يومين، حلت الذكرى الثالثة والخمسون لاختطاف الزعيم المغربي المهدي بن بركة من أمام مقهى ليب بباريس، السياسي اليساري الذي وصفه محمد برادة ذات يوم بـ”الأنا الأعلى التاريخي لجيله”، وما بين ذلك التاريخ واليوم دُشن شارعان في مدينتين متباعدتين في خارطة العالم العربي، الشارع الأول في دمشق، ويعود تاريخه إلى أزيد من ثلاثة عقود، بينما الثاني في الرباط، ويعود تدشينه إلى ما يقارب عقدا ونصفا، وإذا كان الأول مجرد اسم غريب عن ذاكرة المدينة الشرقية، وقد لا يمثل الكثير بالنسبة لسكانها، فإن الشارع الثاني بالرباط حمل اسم أحد أبنائها وصناع أفقها السياسي، وكانت تسميته إيحاء بمصالحة مفترضة، وملمحا من ملامح طي انتهاكات وأعطاب وخيبات سياسية، بيد أن مفارقات الزمن المغربي سرعان ما جرفته بدوره ليمثل كمجرد طباق مديني موجع، بعد أن تحول إلى شاهد على الانتفاء التدريجي لتراثه الرمزي، من المقرات الحزبية إلى المسار الديمقراطي المستنقع يوما بعد يوم في وهدة التسلط.

15