طارق صالح سينمائي مصري من أهم صانعي الفرجة في السويد

الأحد 2017/09/17
طارق صالح مخرج مغامر يغزو صالات أوروبا بفيلمه "القاهرة السرية"

ستوكهولم- عليك أن تعمل، عليك بالانضباط للحصول على مواعيد ضرورية، لا تخف من التجريب، القليل من الفلسفة ينفع أيضا، الاستمتاع بحفلات الشواء في الهواء الطلق، التعامل مع الطبيعة بلطف، استخدام الواقي الشمسي، وحتى الحيوانات الأليفة ستكون مادة خاما عندما تبدأ بالاندماج، لكن ماذا عن الثقافة؟

كنت ببساطة أبحث عن أشخاص ملهمين، أستطيع الاعتماد على تجاربهم لبدء حياة جديدة في السويد، حتى عرضت علي صديقة سويدية مشاهدة الفيلم السويدي ” يالا يالا” والذي ترجم من العربية بمعنى ” تعال تعال أو “يالله تعال”.

من هنا بدأت القصة، بدأت الأسئلة، من هو جوزيف فارس؟ من هو فارس فارس؟ من هو طارق صالح؟ من هي غنى ديراوي؟ من هي سيلفانا إمام؟ من هو سالم الفقير؟ إنه الإلهام حيث تكمن الدهشة، حين تضرب الأمكنة حصاراً على سكانها، وعلى شيء من اللعنة التي تمنعهم من الخروج منها، وإن كان هذا الخروج ولادة جديدة. قد تكون الولادة متعثرة أو مجهضة أيضاً، بما يجعل من الاستسلام للمكان أمراً أكثر سهولة واستكانة. هنا سيحضر المكان بوصفه صاحب السطوة الكبرى على من يقطنه، وهو ألذّ.

هذه المقدمة التحضيرية محاولة مني للكتابة عن وجه من الوجوه التي غيرت المشهد الثقافي في المملكة السويدية بمجمله، حيث الناظم الرئيس سيرة أشخاص استطاعوا خلق تغيير حقيقي في قلب الثقافة والحياة.

ميتروبيا وعوالم صالح

السينما المدهشة. يتوجب البدء بعبارة كهذه في حال أردت الحديث عن شخص السينمائي المصري السويدي طارق صالح، في الزمن الحقيقي صالح هو مخرج سويدي شاب وعربي الأصل، أخرج فيلم الأكشن والإثارة “تومي” والذي يحكي قصة إستيل زوجة تومي وهو أحد أكبر رؤساء العصابات الإجرامية في ستوكهولم، حيث تعود إلى المدينة بعد عام من قيام عصابة زوجها بعملية سطو كبيرة لتطالب إستيل بحصة تومي. ويؤدي شخصيات الفيلم كوكبة من أشهر الممثلين السويديين أمثال موا كاميل وليكي لي وأولا راباس.

بدأ صالح حياته رساماً غرافيتياً ودرس الفن في ستوكهولم وأخرج المجلة السينمائية الوثائقية “إلايف إن كايرو” 1995. ثم نشر مجلته “أطلس” باللغة السويدية. في سنة 2001 أخرج مع إيريك جرانديني فيلماً عن موت تشي غيفارا، وفي عام 2003 أخرج لمصلحة التلفزيون السويدي مسلسلاً درامياً هو “حلم فريق العمل”.

تشارك مع المخرج السويدي فريديرك لندستروم في إنتاج أعمال عديدة، ونال عام 2007 جائزة أحسن عمل تلفزيوني ثقافي من التلفزيون السويدي. وهو معروف بكونه مخرجاً تلفزيونياً ومعداً ومؤلفاً وأيضاً محاوراً جيداً على الشاشة.

لكن عشق صالح للرسوم المتحركة دفعه إلى جانب آخرين إلى تأسيس مؤسسة “إتمو” المتخصصة بإنتاج الرسوم المتحركة والتي أنتجت العديد من أفلام الرسوم المتحركة القصيرة وكان أولها فيلم التحريك والخيال العلمي المدمج بفكرة واقعية “ميتروبيا” الفائز بجائزة أفضل فيلم ديجيتال في مسابقة “أفلام المستقبل” بمهرجان فينيسيا عام 2009.

فيلمه الخامس "حادث النيل هيلتون" أو "القاهرة السرية" 2017، 106 دقائق، يعرض هذه الأيام في أكثر من 100 صالة عرض بعد أن حصل على جائزة “بيون إنتيل فيلم” الفرنسية لهذا العام وهو ثالث أهم مهرجان في العالم

“انطلاقاً من جورج أورويل” هذه العبارة الخلاصة جاءت تعليقاً من لجنة النقاد على الفيلم، فهذا الفيلم يخرج الرسوم المتحركة حقاً من نمطية المشاهدة التي جعلتها نوعاً قريباً من عالم الطفولة بعيداً إلى حدّ ما عن عالم الكبار، لكن ميتروبيا في نظر الكثيرين هو فيلم كافكوي يقترب من علم كافكا في مسخ الشخصيات وانسحاقها تحت وطأة الواقع.

فالشخصيات في فيلم صالح تعيش غالباً في أقبية، حيث كل شيء تقريباً مغلف باللون الرمادي والناس تعيش في عوالم منفصلة، إنها أوروبا التي تسيطر عليها ثقافة الأخ الأكبر، النظام الاستهلاكي الذي يتسلل إلى عقل الفرد من خلال نزعة الاستهلاك بل إنه أبعد من ذلك، إنه يقترب من تخوم عالم جورج أورويل ويطلق نوعاً من أفلام الرسوم المتحركة التي تحاكي الواقع الإنساني وتقدم لنا شخصيات متأصلة بالواقع ولكنها تعيش فصاماً مريراً وعزلة وقلقاً في مجتمع غاب عنه الكثير من الحب والأمان والراحة وسيطرت عليه مسحة رمادية كئيبة غلبت على الأماكن وأحاطت بالشخصيات.

ناتاشا سينجانوفك الناقدة السينمائية كتبت في مجلة “هوليوود ريبورتر” إن ما يثير إشكالا في هذا الفيلم على الرغم من كل ما فيه من مقومات وعناصر النجاح هو حبكته، فهي حبكة أقرب إلى الروح الروائية من خلال عرض وجهات النظر والتفاصيل ابتداء من طريقة بناء ومعالجة شخصية روجر، الشخصية الرئيسية الإشكالية في الفيلم هذه الذي تستنبت “مايكرو جيبس” في دماغه دون أن يدري لغرض السيطرة عليه وتوجيهه نحو ما يريده مصممو ذلك النظام في السيطرة على أفكار وتوجهات الآخرين.

جريمة في الهيلتون

في هذه الأيام يعرض صالح فيلمه الخامس “حادث النيل هيلتون”، أو “القاهرة السرية” 2017، 106 دقائق. وقد حصل الفيلم على جائزة “بيون إنتيل فيلم” الفرنسية لهذا العام وهو ثالث أهم مهرجان في العالم بعد جوائز الأوسكار ومهرجان كان.

الفيلم مستوحى من قصة حقيقية تروي أحداث مقتل إحدى الفنانات على يد ملياردير مصري، ولكن قام مخرج الفيلم بتغيير بعض الأحداث، مع الاستعانة بإسقاطات من القصة الأصلية تبرز علاقة الملياردير بأعلى الشخصيات التي تحكم البلد وقتها وما صاحب هذا الأمر من فساد على كل الأصعدة.

ويتم ذلك من خلال شخصية “نوردين مصطفى” ضابط الشرطة الذي يتولى قضية مقتل مغنية مشهورة وجدت عارية بأحد فنادق الهيلتون في مصر حيث يكتشف أثناء التحقيق علاقة هذه المغنية السرية بأحد الشخصيات الغنية ذات النفوذ وعضو مجلس الشعب وفي الوقت الذي يبحث فيه عن الشاهد الوحيد وهي عاملة نظافة سودانية يتم إخبارها بأن القضية قد أغلقت بناء على تعليمات من جهات عليا.

ومن هنا تتصاعد أحداث الفيلم الذي يعرّي الفساد في مصر مع التركيز ببعض الإسقاطات على الأسباب التي مهّدت للثورة عام 2011 والعلاقات المشبوهة بين أصحاب السلطة وأصحاب المال والفساد الحادث في الجهات القضائية والنيابية التي تصل إلى علاقات مشبوهة مع ابن رئيس الجمهورية وصفوة المجتمع في مصر.

بالإضافة إلى فوز الفيلم بجائزة مهرجان صاندانس إلا أنه شارك وتم ترشيحه لجوائز عديدة حتى الآن من مهرجانات عالمية، وقد حقق تقييم 7.8 على موقع “آي. إم. دي. بي” الشهير وهو تقييم عال بالنسبة إلى تقييمات الموقع. حيث احتفلت الصحافة السويدية بالفيلم بطريقة لافتة للانتباه، ومع كل ذلك فإن الإعلام المصري لم يتحدث عنه حتى الآن ولا يعرف ما إذا كانت الرقابة ستسمح بعرضه في مصر أم لا وسط هذا التعتيم الحادث، حيث كان من المفترض أن يتم تصويره في مصر. وحضرت المنتجة والمخرج إلى مصر وتقدما بالأوراق الخاصة بالفيلم للجهات المعنية طلبا للتصاريح الأمنية وانتظرا الرد أكثر من 21 يوما دون الحصول على جواب.

طارق صالح معروف في السويد بكونه مخرجا تلفزيونيا ومعدا ومؤلفا وأيضاً محاورا جيدا على الشاشة. لكن عشقه للرسوم المتحركة دفعه إلى جانب آخرين إلى تأسيس مؤسسة "إتمو" المتخصصة في إنتاج الرسوم المتحركة

شارك في “القاهرة السرية” الممثل السويدي لبناني الأصل فارس فارس والممثلة الأميركية ماري مالك والنجم المصري ياسر على ماهر. وقد وصف موقع صحيفة «لوباريزيان» الفرنسية الفيلم بالقول إن المخرج طارق صالح أخرجه في قالب إثارة وتشويق على طريقة أفضل المخرجين الأميركيين، حيث جمع بمهارة ما بين الجريمة والفساد والسياسة.

ملاحظة ما لا يلاحظ

ربما لا يعرف القارئ العربي أن السينما السويدية حازت على نحو 180 جائزة في المهرجانات السينمائيّة حول العالم في العام 2010 وحده. الصورة السينمائية السويدية تحاول أن تكون صورة سردية، أي أنها تحكي، ولا تعتبر مكونة لحدث رئيسي له بداية ونهاية، بها أحداث تاريخية وسياسية. فهي تشير إلي ملامح في الواقع وذلك عبر لحظة وإشارة وليس معنى محدد ومؤكد في المشاهد.

كل هذه المقومات تجعل الفيلم يخاطب وعي المشاهد لتنتظم حواس الأخير بطريقة روحية، ويصبح قادراً على تأمل الذات وتوتّر الوعي التاريخي بالأحداث. وسط هذه الحالة تظهر أفلام صالح باعتبارها أكثر من سيناريو وإخراج وتمثيل. هُناك التاريخ الفني وزمن الصناعة والخلفية التي يأتي منها، وبقية عناصره الفنية؛ التصوير، الموسيقى، المونتاج، الماكياج، الصوت، والجمهور المُستهدف، لأن من يُصنع لهم الفيلم جزء هام من الفيلم نفسه.

وحتى مع مؤلفين مهيمنين على الأفلام هُناك مساحةٌ كبيرةٌ يتحرك فيها بقية اللاعبين في الفيلم، المُنتج النهائي لجهود عددٍ من الأفراد. حيث الخبرة بالفن والجمال لدى صالح عن الذكريات والأحلام والطبيعة شديدة الجمال والحالمية هنا، تساعدنا أن نشاهد ونكتشف من خلال عيونه الكثير عن المجتمع السويدي الذي يبهرنا بترتيبه وتنظيمه، حيث يدخل المشاهد عالم صالح ويندمج ويصبح جزءا من المشهد، وذلك بفعل الشاعرية والحسية حيث هناك حالة حقيقية شبيهة بالحلم، فليس هناك تصور للواقعي إنما تصوّر المدرك الحسي، حيث تكون الكلمات قليلة والتعبير بالصورة يكون فائقاً ومكرراً بدون ملل.

9