ضياع الهوية المشرقية
يحتل الوجود المسيحي واستمراره في الشرق حيّزا هاما في دراسة أوضاع المنطقة ومعالجتها من قبل العديد من الكتاب والباحثين، إذ يعتبرها البعض المنطقة الأخطر لتواجد المسيحيين، ويتم إلقاء اللوم على المجتمع الدولي لفشله في التعامل مع ما يعتبرونه حربا ضد المسيحيين في العالم الإسلامي.
أمام التحولات الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وتكسير الرابط التاريخي الإنساني، وسقوط حالة التعايش في المجتمعات العربية المتنوعة، وصعود الإرهاب الديني، فقد أسهمت في انحسار الوجود المسيحي انحسارا واضحا، فنسبة المسيحيين التي قدرت بـ20 بالمئة في أوائل القرن العشرين لم تعد تتجاوز 5 بالمئة من نسبة السكان، وهي مرشحة للتناقص بشكل أكبر ليس فقط في مناطق الصراع وإنما في كافة مناطق الوجود المسيحي الذي تشكل فيه مصر الأكثر عددا، ولبنان كأكبر تجمع مسيحي، ثم سوريا والعراق والأردن وفلسطين، كما تضم إيران وتركيا تجمعات مسيحية، ورغم وجود أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية تفرض الهجرة على الجميع، إلا أن ازدياد الهجرة المسيحية لا يمكن عدّها قضية سياسية حصرا، فهي لا ترتبط بطبيعة الأنظمة، ولا يشكّل المسيحيون أي تهديد أمني أو سياسي لأوطانهم، وليست اقتصادية فالهجرة تشمل حتى الميسورين، وإنما تعود لأسباب مختلفة أهمها:
أولا: انعدام حالة التعايش البناء القائم على الاحترام والندية بين الطوائف والقوميات التي تفتح جسور التقارب بين المجتمعات، والتي عززها عجز الدول العربية عن إقامة دول مدنية ديمقراطية تحترم حقوق المواطنة وتحد من التمييز بين المواطنين، وتحالف العديد من الأنظمة مع جماعات الإسلام السياسي، وتبني شرعية دينية محددة في حكم الدول، والتي تجلّت في أسلمة المناهج المدرسية والتشريعات والقوانين، ما أدى إلى المساس المباشر بالحقوق المدنية للمسيحيين.
ثانيا: حالة العزل المجتمعي وتنتجها من جهة العادات والتقاليد المختلفة، ومن جهة أخرى الربط في المعتقد بين المسيحيين المشرقيين والاستعمار الغربي “الصليبي” وسياساته، إذ كان ولا يزال الدفاع عن حقوق المسيحيين ذريعة للتدخل الغربي، هذا الربط يغذي الكراهية والعداء وينفي عنهم ولاءهم لدولهم ولمناطقهم، ويتم نسب ولائهم للغرب بالنسبة إلى شرائح واسعة في المجتمع.
ثالثا: انفجار الحركات الأصولية بقوة وضراوة، والتي أحيت الذاكرة التاريخية الأليمة لمسيحيي الشرق الأوسط عامة نتيجة تعرضهم للاضطهاد وللإبادة وقتل مئات الآلاف من المواطنين المسيحيين على مدار التاريخ (لبنان وسوريا مجزرة 1860، تركيا المجازر الحميدية بين 1894 و1896 ومجزرة أضنا 1908، العراق أحداث 1933)، فالذاكرة الجمعية، وما يتعرض له المسيحيون من كوارث إنسانية كالقتل والسبي والتهجير ودفع الجزية التي رافقت تأسيس النظام الإرهابي داعش، أجّجت مخاوفهم من التحول هدفا للإبادة، وأن الهجرة هي الطريق الوحيد للخلاص.
ورغم أن الهجرة المسيحية سابقة لحالة الفوضى في بلدان الصراع، إذ بدأت في العراق مع الحرب الأميركية 2003، وشهدت سوريا ازديادا في هجرة المسيحيين منذ السبعينات بسبب انعدام فرص العمل والفساد وقمع النظام للحياة العامة، إلا أنها بلغت أقصى مستوياتها حاليا بسبب المخاوف من سيطرة الحركات الإسلامية على الحكم والأسلمة المتشددة مستقبلا، وأنهم الطرف الأضعف في معادلة النظام والمعارضة المسلحة، وفي معادلة الإرهاب والحرب عليه.
تفريغ الشرق الأوسط، المهد الأول للمسيحية، من مسيحييه وتحويل وجودهم إلى أطلال أثرية خاوية، يشكل خطورة كبيرة كونها قضية أخلاقية ثقافية ترتبط بتركيبة وبنية المجتمعات والموروث الثقافي والاجتماعي والديني للشعوب، وملتصقة بالأيديولوجيات الدينية وحالة التسامح، وتطرح إشكالية التعايش بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى، ما يدعم التوظيف الغربي لتسهيل هجرة المسيحيين الشرقيين، بما يوحي بأن الدين الإسلامي ككل لا يقبل الآخر، والتي تعزز ظاهرة الإسلاموفوبيا وتزيد من العداء الغربي للإسلام، والخطورة الأكبر كونها تنبع من انعدام الشعور الإسلامي العام بخطر هذه الهجرة على هوية المشرق الإسلامي المسيحي، وفقدان مكون أساسي يمد هذه المجتمعات بثروة التنوع الديني والثقافي وهذا لا يصب في مصلحة العرب ولا المسلمين.
كاتبة سورية