ضغينة لغوية
حين كان المرحوم الحسن الثاني يستاء من متحدث عارف بالعربية، بارع في اصطناع التمهيدات الإنشائية، دونما فطنة في اجتلاب الطرافة، كان يقاطعه قائلا “شوف الفقيه” (أنظر أيها الفقيه)، قبل أن يسترسل في تقليب مواجع تمحلاته اللفظية غير الموصلة لحلّ، وتلك التي تجتبي المصائب. إذ كان رحمه الله يعتقد أن العربية العاربة مثلبة فقهية، تنطوي على الجمود والتزمت، والنفور من الحداثة والعقلانية.
دارجة الملك كانت أقرب إلى العامية الأندلسية المهذبة، فيها من الفصيح أكثر من الدارج، غير أنه كان مولعا بالعربية بوصفها سلطة في سياق البلاغة السلطانية، شأنها في ذلك شأن اللباس المخزني: “الجلباب” و”البرنس الأبيض”، و”الشاشية الحمراء”، و”البلغة الصفراء”، وهو الذي يلبس لبلاغته المظهرية، في المناسبات، وحين يتعلق الأمر بمسألة الهوية، والمقدسات (الدين والملكية).
شيء مختلف جدا عن المجال التداولي للسياسة والاقتصاد والقانون التي تحتاج خطاباتها إلى بلاغة جوهرية ومقيّدة، لن تكون في السياق المغربي طبعا لا لغة الفقيه ولا لغة “سيف بن ذي يزن”، وإنما إلى لغة “الجنرال ليوطي” المقيم العام زمن الحماية الفرنسية الذي أرسى دعامات المغرب الحديث.
لهذا كان مفهوما لأمد طويل أن تستدعى هذه الغنيمة الاستعمارية، في كل المواقف والخطابات والسجلات المركزية للدولة المغربية، وأضحى بدهيا أن تعقد مجالس الحكومات المغربية باللغة الفرنسية، وأن تلقى العروض والمداخلات في مجالس إدارات المؤسسات العمومية، والوزارات بما فيها وزارة الثقافة، واللجان التقنية في الولايات والأقاليم، بتلك اللغة غير الوطنية وغير الرسمية.
بل إن من كان يتحدث العربية -على قلتهم- في تلك المجالس الرسمية ذات الطابع السيادي، كان ينظر إليه بقدر غير قليل من التحفظ والإشفاق. هذا طبعا قبل أن ينشأ جيل من المسؤولين في الإدارة الترابية لا يتقن الفرنسية، وإنما يتكلم خليطا من الدارجة المغربية مع مفردات فرنسية تصرّف وتركّب ببنية العامية، لغة هجينة لن يفهمها الفرنسيون بالتأكيد، ولا العرب غير المغاربة، وإنما تفهمها الشرائح التي تتحدث بها.
وضع الإعاقة هذا هو ما انعكس على المعضلة التعليمية في المغرب اليوم، وهو ما ولد كل أصناف الضغينة تجاه العربية الفصيحة من جهة، وتجاه التعدد اللغوي السليم والعقلاني، من جهة ثانية، حيث ينبغي أن تحتل الفرنسية مكانها الطبيعي كلغة أجنبية واحدة ضمن لغات أجنبية متعددة أقربها إلى المغرب الإسبانية ثم الأنكليزية. فأحادية اللسان في المغرب هو مشكلة من يتحدث الفرنسية فقط، لأنه يصرم صِلاته مع الأفق العربي ومع العالم على حد سواء. وغني عن البيان أن أسوأ أنواع السلط تلك التي تمارسها اللغة، نحن لا نملك أن نعبر إلا عما تسمح به اللغة الأقرب إلى وجداننا، قد لا تكون أما ولا أبا، بل مجرد مالك جديد تملكنا بالقرابة والألفة والسطوة القدرية.
كاتب من المغرب