صمت مؤسس

الصمت ينهض بوصفه بياضا متصلا بالأصل الناهض الصلب، تلك القدرة الإنسانية على أن تكون ذاتها دون ضجيج ولا احتجاج ولا سعي إلى الإقناع.
الأربعاء 2018/08/01
الامتناع عن الكلام.. أكثر الملكات الإنسانية جبروتا في فيلم "الصمت"

الصمت نقيض الخرس، لا هو بإعاقة ولا إذعان لسلطة، هو إرادة حرة لرفض الجواب أو الزهد في الرد والتواصل، تزدهي بعمقها الفردي المجاوز للضرورة، هو اختيار له من العقل حظ ومن الوجدان حظوظ، وأسلوب تعبيري قبل أن يكون انصياعا لهيمنة الصوت الجهير، لهذا لا يصمت إلا القوي في ممالك الضوضاء والصخب، الصمت قرين العقلانية، بينما الخرس نتاج للاستبداد، ومثلما أنشأ الصمت عنفوانا معنويا، كان الخرس ادعانا لعتيّ البلادة وجنون الحديث.

في فيلم مارتان سكورسيزي الخالد “صمت” يكاد يتحول الامتناع عن الكلام إلى أكثر الملكات الإنسانية جبروتا، ليس لأنه شجاع ويمتلك جدارة رفض النطق بما يبتغيه المحقق في محاكم التفتيش اليابانية، ولكن لأنه يقول نقيض المبتغى بعدم نفيه لفظا، لا يريد معتنقو المسيحية في فضاء بوذي أن يتراجعوا بالكلام عن إرادة صمودهم، هم يصرون فقط على ترك المحقق يتدفق حديثا دونما رد. لا يقولون شيئا في مقابل آلة التعذيب الجهنمية، الصراخ نفسه يتجلى بما هو تنويع على مقامات الصمت.

 في هذا الفيلم وفي عشرات الأفلام والروايات والسير التي تروي محن التطهير الديني والعرقي واللغوي ينهض الصمت بوصفه بياضا متصلا بالأصل الناهض الصلب، تلك القدرة الإنسانية على أن تكون ذاتها دون ضجيج ولا احتجاج ولا سعي إلى الإقناع، ولا رغبة في التواصل، أصل شبيه بالسند في عدة الرسام التي لم تخضع لتلوين ولم تكتسب هوية.

لهذا كانت الحضارات دوما مليئة بالفراغات، وجغرافيات الصمت والبياض، تلك التي تمتص الأثر والمعنى، وتجعل فعل الكلام مجديا، فلا يمكن أن نتخيل قصائد وسيمفونيات ومسرحيات وسرودا وتشكيلات فنية دون مساحات شاسعة من الصمت المجدي، الرافد لرغبة التأمل والتأويل وإنتاج الرموز، فالصمت قرين سجايا الإصغاء والتأمل والاستيعاب والتدبر، هو ظل بمعنى ما لضوء قد تكونه نسب محظوظة من الكلام، وحيث أن لا صور ولا تشكيلات بكتل ضوئية صماء فإن الظلال أضحت نقطة تحول أساسية في التعبير الفني.

لهذا لا أعتبر ما يجري في مشهدنا الثقافي الذي باتت الفضيحة عنوانا له، من صمت لعدد كبير من الشعراء والروائيين والمسرحيين والنقاد والباحثين، إلا تعففا دالا، لا خرسا جبانا يزري بالكرامة والضمير، هو تعبير كريم وإصغاء وتشوف إلى الرفعة، ومحو لما لا ينبغي أن يستوطن الذاكرة، لا رهبة من سلط خاوية… في العمود الأيسر من فناء الانتظار الرئيسي بقاعة العرش في قصر الحمراء بغرناطة نقشت عبارة حكيمة لعارف مجهول تقول “قلل الكلام تخرج بسلام”.

15